يمكنُ للضّحكةِ أن تكونَ هندسةً ذَوقيّةُ، ولكنْ من دونِ تعقيداتٍ وقواعد، لأنّها تقتحمُ مدى الإنسانِ الذي لا شوائبَ فيه، ولا مزايدات، وحيثُ نجدُ وحدةَ البساطةِ تُمَجِّدُ انطلاقةَ النّفسِ التي لا تَخضعُ للضَّوابط، من هنا، تصبحُ الضّحكةُ للرّوحِ ما يُشبِهُ المِظَلَّة، فكلّما اشتدَّ المَطرُ، اشتَدَّتِ الحاجةُ إليها.
أبو سليم ارتاحَ الى أنفاسِ الضّحكة، فأَثمرَ ارتياحُهُ قراءةً لنُسخةِ الفرح، هذا الذي يموتُ من المَلَلِ لو تَخاصَمَ النّاسُ، وناصَبوا العِداءَ بعضُهم بعضاً. لكنّ الرَّجلَ استعرَت فيه ملحمةُ الإبداع، فتَحْتَ أكداسِ اللَّحمِ والعَظم، يُنشَدُ كنزٌ دفين، لم يُتِحْ للحياةِ أن تأخذَ صاحبَهُ بالمِخنَق، وأن تجعلَ حائطَه ضعيفاً، فأَسكنَ موهبتَهُ في بدائعَ تجاوزَت الأنظمةَ الثّابتة، لأنها وُلِدَت من طبيعةِ الإنبثاقِ العَفويّ للإبداع.
إنّ الأقدارَ التي نَفَذَت سهامُها المَكروهةُ الى الوطن، وتحكَّمَت مخالبُها بِطالِعِه، أَسَرَت حُرَقُها أبو سليم، وفرَّقَت غلائلَ النّعمةِ في عيشِه، وأَبعدَت عنهُ عهودَ المؤانسة. لكنّ الوطنَ الذي كان له، في إبداعيّاتِ أبو سليم، طَعمُ الخير، لم يَخشِنْ، معه،خُطابُهُ، ولم يتحوَّلْ مُرّاً يستدرجُ عِتاباً، فالرّجلُ، في قضيةِ الوطن، قد توكَّلَ على اللهِ العُلويّ الذي، وحدَه، يؤيّدُ الحقَّ، سلاماً وقِياماً. من هنا، لم يَقِفْ أبو سليم أخرسَ الصَّوت، إذ أنطقَ وجعَهُ في تأليفاتِهِ، وتمنّى لو استطاعَ أن يخلعَ سلامتَهُ، على الوطنِ، رداءً، وأن يُعيرَه من صحّتِهِ عافية، فهو لا يتهنَّأُ بالعافيةِ مع سَقَمِ بلادِه، ولا يتمتَّعُ بنضارةِ عيشٍ مع شُحوبِها. لكنّ نكهةَ القيامةِ المُرتَجاة أقوى من اليأس، ومن الإنكفاء، فشَذى الياسمين يبقى يفوحُ ولو قتلوهُ ألفَ مرّة.
لقد أذابَ المسرحُ قلبَ أبو سليم شَوقاً إليه، فأقسمَ على أن يكونَ له خِلّاً، وأخرجَ ماردَ التّأليفِ من قمقمِهِ فَنَطَق. ولمّا كان أبو سليم ملتزِماً بمذهبِ ” فولتير ” الذي قال: ” إنّ أَضْيَعَ الأيامِ، يومٌ لا تَضحكُ فيه “، وضعَ الرّجلُ للضّحكِ قاموساً، فَهْرسُهُ التَفَكُّه، بعيداً عن تشويهٍ ساخرٍ، أو تجريحٍ مُؤذٍ، أو إيلامٍ بالتّركيزِ على عيوبٍ تنالُ من الكرامةِ الإنسانيّة. لكنّ أبو سليم ذهبَ الى تصويرِ بعضِ جوانبِ السّلوكِ، والمواقفِ، تصويراً مُضحِكاً، ناعماً، هادئاً، بعيداً عن كلِّ لَومٍ أو معاقبة. غيرَ أنّه طَعَّمَ الفكاهةَ بالجِدِيّة، بمعنى أنّه نقلَ أخبارَ الطُّرَفِ، من مجرّدِ سَردٍ هدفُهُ الإضحاك، للتّرويحِ عن نفسِ المُشاهِد، الى فنٍّ يمكنُ اعتبارُهُ نافذةَ عُبورٍ الى عِلمِ الإجتماعِ، من خلالِ تفصيلِ نفسيّاتِ النّاسِ، وطِباعِهم المختلفة، كما عالجَها في حلقاتِه. وهو ليس فَجّاً، ولا يعبَثُ بمَن يتناولُهُ من شخصيّاتِه، لأنّ أيّاً منها ليس دُميةً يحرّكُها أبو سليم على هواه، أو يَجهدُ لإظهارِهِ أَحمقاً، أو بسيطاً، أو ثقيلاً، أو ساذجاً، لاستدرارِ الضّحكة، فأُناسُ أبو سليم ليسوا سُذَّجاً، بقدرِ ما هم أبطالٌ من لحمٍ ودمّ، يتحرّكون، ويتحاورون، ويتّخذون مواقفَ، كما في الواقعِ المَعيوش.
بالإضافةِ الى الإضحاكِ الذي قصدَ إليه أبو سليم كغَرَضٍ محوريّ في حلقاتِه، أرادَ أن يُثيرَ قضيّتَين : أولاهما عدمُ إغفالِ التّفكهةِالتي تعيشُ، اليومَ، أزمةَ ابتِذالٍ مرفوضة، وحالَ انحطاطٍأدبيّ، فالتّفكهةُ ليسَت نمطاً متطفِّلاً على الأدبِ التأليفيّ، بل هي من صميمِه، تستمدُّ مقاماتِها وألوانَها من اليوميّاتِ التي هي في صُلبِ مندرجاتِ الحياة. فإذا كان التأليفُ مرآةً تنعكسُ على سطحِها ملامحُ مجتمعِ الناس، فمن حقِّ الجانبِ الفكاهيّ أن يكون له مساحةٌ في نتاجاتِ الإبداع، خصوصاً، في هذا العصرِ الجامد. أمّا القضيةُ الثانيةُ فهي تحميلُ النموذجِ الفكاهيِّ تركيبةً لا تخرجُ عن دائرةِ الفنِّ الرّاقي، والمُهَذَّب، الى تَبَنّي الإسفافِ، والتَّطاولِ، فالضّحكُ ليس جحيمَ الوِقارِ الإجتماعيّ، ولا نكبةَ الأخلاق.
مع أبو سليم، لم يكنِ الضّحكُ ذا حَظٍّ منكود، لأنه وجدَ مَنْ يُناصرُه، ولم يَهبطْالى حضيضِ السّفاهةِ الوَقِحَة، لأنه استظلَّ بفَناءِ مُلاحِظٍ حِرّيفٍ جمعَ له ما صانَه، وإنْ لم يَستِرْ كلَّ مخازيه. والحقيقةُ أنّ أبو سليم كان مشغولاً برزقةِ الفكاهةِ لئلّا تضيع، فدرجَت بينهما علاقةُ وِدٍّ، وعِشرة، وحِرص، فالرّجلُ، بما أُعطِيَ من دقّةِ نظر، وموهبةٍ باهرة، وقدرةٍ على الإجادة، حَقَّقَ ظَنَّ الفكاهةِ به من الرِّضا، وصَحَّ له منها وداد.
لقد أخذ أبو سليم وقودَه من حياةِ الناس، فلم تكنْ حلقاتُهُ، بذلك، قليلةَ المحصول، لأنها حملَت طائفةً من المشاهدِ الطريفة، ونماذجَ من أداءِ الطّبقاتِ المختلفة، وعِبَراً في فَهمِ الحياةِ، لَقَّمَها أبو سليم مَنْ شاركوه في مسالكِ التّمثيل، وما من أحدٍ بينهم إلّا وكان له في النّجاحِ حِصَّة. لقد تقاسمَت هذه الشخصيّاتُ اقتناءَ الحوادث، ومراتبَ الأحوالِ المتفاوتة، بما فيها من خُبثٍ وسذاجة، وعُسرٍ ويُسر، وطيبةٍ واحتيال…في جَوٍّ من الواقعيةِ الشعبيةِ، المُعافاةِ من الصَّنعةِ، ومن التكلُّفِ الثَّقيل، حتى لنَحسَبَ أنّ الجُمَلَ المنطوقةَ قد قُطِفَت من شِفاهِنا، ما يدلُّ على أنّ هنالكَ نَسَباً بين أبو سليم وبين عِتادِ الكتابةِ التي هي، معه، فصلٌ من الأدبِ الشّعبيّ.
أبو سليم العالِمُ في نَسجِ عَصَبِ الضَّحك، منذُ عُقِدَت خُطوبتُهُ على الخشبةِ، وعلى الشّاشة، لَعِبَ دوراً حاسماً في نهضةِ الفنِّ الكوميديّ، ولم يَعُدِ العبورُ الى الضّحكِ، معه، مجرَّدَ انفعالٍ، بقَدرِ ما أصبحَ ظاهرةً تدرُّ فائدةً شعوريّةً على الذّاتِ، في نزاعِها مع الواقع. قيمةُ أبو سليم، في حالةِ الضّحك، أنّه يَصعبُ الإبقاءُ على الرأسِ مستقيماً.