في الزَّمنِ العَبوس، عندما تُدرِكُ النّزعةُ العاصفةُ في الإنسانِ كوامنَها، وتُطرِقُ الى ما يَنطقُ فيها من رجّاتِ عِداء، لا تحصلُ الموازنةُ إلّا في رفعِ الحجابِ عن السّلامِ لتُجنى محاسنُهُ. وهذا لا يعني، في أيِّ حال، تَوَدُّداً لاستدراجِ الهروبِ من المواجهة، إنّما لتوسُّطٍ مُجدٍ معالمُنى بالسّلام، ليكون الأكثرَ سلطاناً في النّاس،،،، والعجائبُ تحدثُ دائماً.
كم من الأسئلةِ طاولَت مجرياتِ الأحداثِ التي تعاقبَت في معابرِ الزّمن، وكُدَّ السّائلون بشيءٍ من الإستعجالِ للوصولِ الى الأجوبة، ربّما بفُضولٍ كثيراً ما كان في غايةِ التَّعقيد، وربّما لقَلَقٍ وغربةٍ وضياعِ اطمئنان. ليس غريباً أن تسلكَ علاقاتُ النّاسِ مَطافَ المخاصمةِ، والعدائيّةِ النَّشِطَة، فالإنسانُ مفطورٌ على الشرّ، كما أشارَ الى ذلك، العهدُ القديمُ في أسطورةِ قايين وهابيل، وكذلك، الفلاسفةُ، والشّعراءُ، وعِلمُ الإجتماع…فكأنّ “الإنسانَ ذئبٌ على أخيه الإنسان”، على حدِّ قَولِ ” هوبز “، أو هو مُنافسٌ مدسوسٌ ينبغي التخلّصُ منه بالقضاءِ عليه، كما جاءَ في شِعرِ ” أبي الطيّب “:
” أَكُلَّما أَنبَتَ الزّمانُ قناةً رَكَّبَ المرءُ، في القناةِ، سِنانا “
لم يحدثْ في أسلوبيّةِ التّعاطي ” الرَّسمي “مع قضيةٍ، كما يحدثُ، في موضوعِ السّلام، في الدّوائرِ الدوليّة، باللّجوءِ الى الدَّوَرانِ حول المعاني، منذُ السَّيرورةِ الأولى لهذه المسألة، فالدَّلَفُ الى المداورةِ، والإلتفافِ، كان النَّمطَ الغالِبَ في الحواراتِ، والأبحاثِ، والمؤتمرات، وذلك، لمراعاةِ ظرفٍ، أو لتَهَرُّبٍ من مواجهة. في حين كانت توصيةُ الشّعوب، في غابرِ الأيامِ وحديثِها، تعميمَ مَذاقِ السّلامِ على النّاس، فالبشريّةُ، من حقِّها، أن تتنعَّمَ بالطمأنينةِ، والأمان، وراحةِ البال.
لقد صحا نزيفُ المطالبةِ بنَشرِ المُسالَمَةِ بين شعوبِ الأرض، وبشكلٍ غيرِ رَكيك، وبعمقِ بلاغ، في مطالعاتِ السوسيولوجيّين الذين ركّزوا على أنّ السلامَ هو الملجأُ الذي يُركَنُ إليه، بالرَّغم من وعورةِ المسالك التي تفتعلُها الأنانيّاتُ، وحبُّ السيطرة، وبسطُ الوصاية، ما يُحكمُ نَحتَ عالَمٍ متشنّجٍ، ومضطربٍ باستمرار. وللأسف، ففي أيدي المُشَنِّجينَ مُدِمِني العدائيّة، وهم ليسوا قِلّة، يوضَعُ مصيرُ النّاسِ، ويُعَلَّقُ أمانُهم على خيطٍ ضعيفٍ فوق هاوية، لتسودَ الصراعاتُ، والمواجهاتُ القاتلة، والحروبُ الشّنيعة، التي يستغلُّها ” الكِبارُ ” لتحقيقِ ثرواتٍ، ومناطقِ نفوذ، وحُكمِ الكَون… ويدفعُ ثمنَها، دائماً، الضّعفاءُ الذين لا حولَ لهم.
واستناداً الى ما قاله ” سارتر ” المفكّرُ الوُجوديّ من ” أنّ الجحيمَ هم الآخرون “، يُفهَمُ، تماماً، كيف رَسَت، وترسو، العلاقاتُ بين الأفرادِ، والجماعات، على ثقافةِ الإعتداء، والبغضاء، والمنافسةِ على السّلطان، والظّلم، وإزالةِ الآخر. وما الدّعواتُ الى إحلالِ السّلامِ في الكرةِ الأرضية، من جانبِ أكثرِ الدّاعين، سوى بروباغاندا لنشرِ إشاعاتٍ مُبهِرَةٍ في ظاهرِها، كاذبةٍ في أهدافِها، يهدفُ التَّبشيرُ بها الى تبييضِ صفحةِ إجرامٍ موصوف، وعن سَبْقِ تصميمٍ، يقترفُهُ المستَقوونَ، ويجنونَ به، عنوةً، هيمنةً مُحكَمَةً على قرارِ الآخرين، وتأميناً لمصالحهم التي لها الأوليّة.
لكنّ ذلك لا يعني، أبداً، أنّنا نُسَخِّفُ ما يقومُ به بعضُ المنظّماتِ الدولية، والإقليمية، والمحليّة، من جُهدٍ مشكور، لإسماعِ الصّوتِ، دفاعاً عن حقِّ المغلوبِعلى أمرِهم بحياةٍ سلميّة، وكريمة، والتَنَعّمِ بأمانٍ غيرِ مُستَجدىً، لا يستأذنُمُستَحِقّوهُ أحداً.إنّ الأنشطةَ المختلفةَ التي تخوضُها هذه المنظّماتُ، تكشفُ عن كيانٍ شرّيرٍ يملكُ نوايا شيطانيّة، وقدراتٍ لا حصرَ لها، ويفتكُ، وبلا هوادةٍ، بالشّعوبِ، وبشكلٍ نَجِسٍ، وينتجُ عن طغيانِهِ قَهرٌ، وتطويع، وضحايا، وتدمير، وخوفٌ دائم، واغتيالٌ سافرٌ للحقوق…
من حقِّ الجميع، ومن دون استثناءات، العيشُ بسلام، خارجَ إطارِ الهواجسِ، والرّعبِ، والشكِّ ببشاعةِ المصير، فالإتفاقيّاتُ الدولية، والمعاهداتُ، والوثائقُ، والشُّرَعُ، قد استهلكَتِ الدّعوةَ الى المزيدِ من الجهدِ لإحلالِ السّلمِ بين بني البشر، وفي طليعتِها شرعةُ حقوقِ الإنسان، لكنّ التّجاوبَ لم يكن على قَدْرِ المُرتَجى، فالحروبُ استمرّت، والتسلّطُ استشرى، والهيمنةُ بابُها واسع. من هنا، يُطرَحُ السؤال : هل استعصى مرضُ العدائيّةِ على كلِّ علاج ؟