علَّمَنا إيمانُنا أنّ طَبَقَ الفضّةِ لا تُقَدَّمُ عليه، في كلِّ مرّةٍ، أحجارٌ كريمةٌ، وإِن حَصَل، فبِصَنيعٍ صارِمٍ، مُتناسِلِ القيمة، ومُعتَصِمٍ بكفاءةِ الجوهرِ غيرِ المصهورِ بالتّراب. وكذا الدّينونةُ، في الكُتُب، يَمثُلُ أمامَ قوسِها المقدَّسِ مَنْ يُعَدّون لعذابٍ أليم، وأيضاً، أولئكَ الذين سيُقيمونَ عن يمينِ الربّ. وعلَّمَنا إيمانُنا، أيضاً، أنّ الدّينونةَ لا تُرجِئُ موعداً، ولا تَتعَب، بالرَّغمِ من ازدحامِ كثيرينَ يُلَوَّعون بالإنتظار.
لقد ظنَّ غيرُ المتماسِكين بأنّ الدينونةَ تؤرِّخُ لعصرِ الشَّقاء، أو لعصرِ العطشِ الذي لا ترويهِ إلّا أقداحُ الأرواحِ التي لم يُنِرْ مصباحَها زيتُ البِرّ. وكأنّ الدّينونةَ بها شَغَفٌ الى الإنتقام، تَنهضُ أشواقُها الى نارِ لُهاثِ النّفوس، وتُدمنُ ريشتُها، بجرأةٍ، لوحاتٍ ليس فيها ظلٌّ لحِسّ. وكأنّ الدّينونةَ أُعطِيَت، عن عَمدٍ، قدرةً خفيّةً لتُلصِقَ في أذهانِ الأَحياءِ وَهماً مُرعِباً وهو أنّ إِواليّتَها خُصِّصَت للتّنقيبِ عن رُقَعِ الأخطاءِ في أَضلُعِهم، بِهَوَسٍ لا يُريحُها فحَسب، بل يجعلُها تشهَقُ كلَّما استحوَذَت، عندَهم، على شَطَطٍ، أو فكَّكَت قناعاً عن شهوة.
إنّ الصّدمةَ التي تُفرَضُ علينا، هي أنّ الدّينونةَ تأخذُنا الى مسقطِ رأسِها، في عاصمةِ المحاكمة، ربّما لكي نُسَلِّمَ، ونحنُ بَعدُ أحياء، بأنّ الحياةَ بحاجةٍ مُطَّردَةٍ لهزّةٍ تُذَكِّرُ بالآخِرةِ التي تُصبحُ، فينا، كلَّ انشغالاتِنا، والهزَّةُ، هذه، لا ترضى الدّينونةُ، لها، علاجاً. وتُقامُ، عندَها، علاقةٌ، سيّدُها طَرَفٌ واحد، يُطلِقُ إغراءاتٍ تُحدِثُ شَللاً شعوريّاً، إلّا بالخَوف، فيُطبِقُ على الخائفِ استسلامٌ لاإِراديٌّ، بل مقصود، لجهازِ الدينونةِ الذي يُشبِهُ عُصبةَ غَزوٍ وهيمنة، ما يتركُ تَعَدّيه نُدوباً عميقةً في آليّاتِ الحقِّ بالمواجهة، فلا مجالَ، بالتالي، لأيِّ دفاع.
إنّ قلبَ الموازينِ، على مستوى إنتاجِ تَحَوّلٍ في مقاربةِ مفهومِ الدّينونة، بمعنى استفاقةِ نَبضٍ ” ثَوريٍّ ” لرفضِ وصايتِها، بقَدرِ ما هو انتفاضةٌ على رَهنِ الطمأنينةِ، بقَدرِ ما يُفهَمُ منه تَقويضٌ لمنظومةٍ إلهيّةٍ تُجَذِّرُ في المَخلوقِ سلطانَ الخوف، ليبقى عَبداً مُنقاداً، خاضعاً لِأوتوقراطيّةٍ غيبيّة. لقد منحَ مُعطى الكرامةِ للإنسان الحقَّ بأن يُلاشيَ التسلّطَ عليه، وأن يُنهيَ حالةَ ولائِهِ القَسريّ، كما قدَّرَت له يقظتُهُ الواعيةُ أن يُسقِطَ حاجزَ الخوفِ، ويهدمَ بعضَ البِدَعِ المُلتبِسَةِ التي تُمثّلُ تسطيحاً للعقل، وسذاجةً للإيمان، من دونِ أن يتنكَّرَ لقدرةِ الخالِقِ الذي، بهِ، يحيا كلُّ شيء.
الدّينونةُ، في خطابِ الأقدمين، تحملُ حقيقةً عقابيّةً ذات مدىً تَهويليٍّ، وكأنّ الإنسانَ الذي أَهْبَطَعليه سلطتَها، يعبرُهُ هاجسٌ مَهمّتُهُ قَضُّ مضجعِهِ، باستمرار، وهو : ” أنتَ مُتَّهَم “. هذا، بالذّات، يناقضُ مدلولَ الحياةِ، مع الله بالثّالوث، بأنّها حالةُ إبهاجٍ حُرَّة، أو حُلَّةٌ من الفرحِ مغبوطةٌ بالنّعمة، أو عهدٌ سماويٌّ رَضِيٌّ بالمَسَرَّة، فالمُطَعَّمُ بروحِ الربّ، لا يعزفُ إلّا على وترِ الحريّةِ المُطَمْئِنَة، ولا يرضى إلّا برَشفةِ الإغتباط، لأنه قيلَ: حيثُ يكونُ روحُ الربِّ، تكونُ الحريّةُ، ويكونُ الفرح.
لسنا نعملُ، في سِفرِنا هذا، على حجزِ الدّينونةِ في قفصٍ بارد، أو على إسكاتِ مفاعيلِها إسكاتاً هِرمِسيّاً، ولا نُحرِّضُ عليها أو نَكيدُ لها، وكأنّها الرَّجيمُ المَلعون، لكنّنا نُفَصِّلُ في مفهومِها ليسَ لِذَنبٍ، إنّما لإيضاحٍ مُرشِد.فالتَّشاغلُ الدّائمُ بوَقعِ الدينونةِ في أذهانِنا، أسفرَ عن تَداخلٍبينَ الفَهمِ والوَهم، هو أسوأُ ما يُمكنُ أن يرميَ العقلَ عن صهوةِ وَعيِه، ليقترفَ تَراجِمَ بشعةً للدينونةِ، لا تنطقُ بها ريشةُ الحقيقة. إنّنا لا نُنكِرُ أنّ مرآةَ السّماءِ تحضنُ خفايا وأسراراً يَصعبُ على الإدراكِ اصطحابُ خُطوطِها، فالمنهجيّةُ التي سيقَت للكَشفِ عمّا ينطوي عليهِ مضمونُ الثالوث الأَقدس، مثلاً، بقيَت عاجزةً عن ذلك، بالرَّغمِ مِمّا تَكَلَّفَهُ المَلافنةُ والمفكِّرون. واستناداً، فإنّ اشتياقَنا الى المعرفةِ، إذا لم يُكسِبْنا، في مجالِ الكشفِ، إجابةًواضحة، وسارَ بنا الى التّشويشِ والتّشويه، ينبغي، عندَها، غَسلُ الإرادةِ من مبرِّراتِ الخضوع لهذا الإشتياق، والإعترافُ بأنّ الزَّمنَ لم يأذَنْ، بعدُ، بتسهيلِ الصَّعبِ له. وذلكَ ينطبقُ على مقاربتِنا لمفهومِ الدينونةِ، هذه المقاربةُ التي استحوذَ التوهُّمُ الباطِنُ بخِناقِها، ومنحَ نفسَه ارتكابَ ذَنْبِ وَصفِها، من دونِ التَنَبّهِ الى أنّ بينهما خَطَّ تَماسٍ عميقاً، فلم يهنَأْ بِما يَشفي اشتياقَه، ولم يُغفَرْ ذَنْبُه.
الدّينونةُ، في مفاعيلِها الإيجابيّة،هي همزةُ وصلٍ مع التَّوبة، فبدلاً من الطَّوافِ على بساطِ ريحِ الخوف، وبدلاً من الإنغماسِ في طينِ الخطيئة، يلتحقُ الإنسانُ بتوصياتِ التّوبة. والتّوبةُ ليسَت، بتاتاً، تطبيقاً مُلزِماً لخشونةِ النَّدَم، بقَدرِ ما هي عِقدٌ مقدودٌ من صفاءٍ وخَصبٍ وفرح، يتمايلُ معها، في النّفس، ترتيلُ الطمأنينةِ لتنعتقَ الرّوحُ من رمادِ الكَون، فتفيضُ عليها رجفةٌ وكأنّها تلمسُ يَدَ الأَزَل.