تحظى الصناعات الثقافية باهتمام كبير لما تتميز به من قدرة عالية على بلورة الرأي و تشكيل العقل ، و يدور الحديث دوماً في مختلف الأروقة عن امبراطوريات احتكارية عملاقة في صناعة الثقافة ذات قدرة خارقة و فعالة جداً في التأثير على الثقافة في أبعادها الأخلاقية و الفلسفية ، و يمكن تعريف الصناعات الثقافية بأنها كل الأجهزة المادية و الطاقات البشرية التي تُجسم الآثار الفنية و الإبداعية و النتاجات الثقافية في صورتها المحسوسة فتنسخها أو تنشرها أو تُوزعها حسب مقاييس صناعية و تجارية لغاية تنمية و تطوير الثقافة ، و تستند هذه الصناعات إلى صناعات تحتية كبيرة و هي التي تُحدد درجة تطورها و مدى استقلاليتها و قدرتها على الحضور الفعلي داخل الحقل الصناعي و الاقتصادي العام ، و ينبني مصطلح الصناعات الثقافية على الربط بين موضوعين يتناقضان بالضرورة ظاهرياً و هما صناعة من ناحية و ثقافة من ناحية أخرى فالصناعة تُشعَر بمعنى الإنتاج الاستهلاكي النفعي كصناعة المنسوجات و الملبوسات و أما الثقافة فإنها تصرف الذهن إلى التذوق الشخصي و المتعة الفردية و إن هذه المزاوجة بين الثقافة و التقنية أو حتى بين الذاتي و الموضوعي هي نتيجة التحولات البنيوية التي طرأت على هيكلة المجتمعات حيث لم يعد بالإمكان الفصل بين التطور و التكنولوجيا أو بين التنمية و التقنية .
إن الثمن الاجتماعي للمعالجة التجارية لصناعات الثقافة و الاتصال باهظ للغاية فهو يؤدي إلى اختلال خطير جداً داخل عمق الأُسس الديمقراطية نتيجة انقسام المجتمع بحدة بين فئتين متناقضتين بالضرورة : فئة تمتلك القدرة على شراء المعلومات و النتاجات الثقافية و تستفيد منها و فئة محرومة لا حول و لا قوة لها مما يؤدي في هذا الحال إلى تمركز مجمل عناصر القوة بين أيدي مالكي المعلومات و محتكريها و نمو عدم المساواة و هذا من شأنه أن يزيد في دعم التباين الاجتماعي و ترهل روح التبادل و التعاون في المجتمع ، و هناك مفارقة غريبة تشكلت و تبلورت في هذا الوضع فمن جهة هناك زخم معلوماتي إلى حد التُخمة إنتاجاً و بثاً و لا يلبي حقيقة حاجة الراغبين فيه و من جهة أخرى هناك سيل عارم من المعطيات الجديدة المهيأة بصفة مسبقة لمقتضيات السوق و بعض القوانين التجارية لا تتناولها إلا الطبقة المحظوظة ، و قد أثار هذا الوضع حفيظة خبراء الاقتصاد الذين أصبحوا ينظرون إلى المستقبل نظرة حيرة و شك و ريبة فالشركات المعلوماتية الكبرى التي تحتكر التصرف و الترويج و الإنتاج و البث في شؤون تقنيات المعلومات لا تُولي أي اهتمام يُذكر إلى المعطيات ذات الصلة بميدان التعليم و العمل و شؤون الصحة و البطالة و غيرها من الميادين المشابهة و هو ما من شأنه أن يجعل مثل هذه المعطيات بأيدي محتكرين من أصحاب رؤوس الأموال ، كما يُلاحظ المُتابع بأنه لحق الأذى بعدد كبير جداً من الباحثين و العلماء نتيجة الحضور الجديد للصناعات الثقاقية فهم في لهث دائم للبحث عن من يتبنى أبحاثهم داخل النطاق الجامعي أو العمومي كونه أصبح من العسير جداً خارج هذه الأُطر إيجاد من يتولى أمرهم و رعايتهم فميدان تحركهم تعتريه الكثير من الصعوبات خاصة و هم يُنشدون قيم التبادل العلمي و التعاون الحر و الشفاف في مجال المعلومات و هي قيم يصعب استساغتها من طرف أصحاب الصناعات الدقيقة كصناعات الأدوية و الهندسة المعلوماتية و الرقمية و الالكترونيك .
من المعلوم بأن ارتباط صناعة الثقافة و الاتصال بالنظام التجاري الخاص و الحر قد سحب السيطرة من تحت أقدام أغلب الأقنية الرسمية على أهم و أميز أجهزة و مؤسسات صناعة تقنية المعلومات و المعلوماتية مما أدى إلى ظهور مراكز للاحتكار و الهيمنة تمتد سطوة نفوذها إلى أقاصي الدنيا و تُمسك بزمام المبادرة في صنع و تحديد الإنتاج الثقافي الذي لا يستجيب إلا لمقتضيات رأس المال و منطق الربح و ذلك على حساب أغلب المجتمعات الغير محظوظة و أيضاً على حساب الثقافة و القيم السائدة و كذلك على حساب العلماء أنفسهم و على حساب الديمقراطية بإسم الديمقراطية ذاتها ، فهناك مجتمع جديد ظهر بقوة في متاهات تأكيد المجتمع الحديث الذي يعمل غالبية أفراده أسرى ملامسة أجهزة الكومبيوتر و متابعة أحداث شاشاتها ، و مما سيزيد في استفحال هذا الواقع و تفشي هذه الصور المتعددة هو هشاشة واقع الصناعات الثقافية في المجتمعات الأقل تقدماً و الأفقر تقنياً .
لا يقتصر توظيف صناعة الإعلام و تقنية المعلومات على المستوى الاقتصادي فحسب بل يمتد إلى وظائف هامة في مجالات السياسة و المجتمع فسلسلة المعلومات المُبرمجة داخل القواعد المعلوماتية هي في حد ذاتها مادة أساسية و مُنظمة بإتقان لغايات تجارية بالأساس ، و لئن كان البُعد التجاري و الطابع الخدماتي هما المُهيمنين على سواد مؤسسات الصناعات الثقافية فإن قطاعات أخرى لم تفلت من التأثيرات المُتمثلة في بعض النُظم الساعية إلى التأثير على توجه العقل عبر وسائل البث الجماهيري لاكتساب القدرة على توجيه الرغبات العامة برُمتها و بلورة العقلية الاستهلاكية و إدخال تشكيل جديد يجعل مصير الثقافة رهيناً للقدرات المادية الحديثة التي يتم إنتاجها و ترويجها ، و لعله من المفارقات الغريبة التي تتبلور في عموم المجتمعات المتقدمة على سبيل الذكر و المثال فقط هي قيام مؤسسات و شركات الدعاية و الإعلان و حتى التسويق بإطلاق حملات إعلانية مُوازية تُدافع من خلالها عن حرية التعبير و إبداء الرأي ضمن حملاتها العارمة كالسيل و التي تقوم بها لحماية العمل و الهدف التجاري و الإعلاني .
د. بشار عيسى