ليس حدثا عاديا في تاريخ لبنان هذا اللغط والتجاذب بين مراجع السياسيين والأمنيين المطروحة اسماؤهم على لائحة المثول في حضرة القضاء. ليس حدثا عاديا لأن الجريمة غير عادية، حتى أنها عُدّت الثالثة من نوعها وحجمها في لائحة الإنفجارات العالمية وعديد ضحاياها منذ قنبلة هيروشيما الشهيرة. وهي غير عادية باستهدافها مرفأ بيروت ومحيطه السكني، وقتلها أكثر من مئتين من الضحايا وتشريد آلاف السكان وتعطيل أعمال مئات المؤسسات. وهي غير عادية لأنها كشفت هزال الدولة، وتهاوي مرافقها وهيئاتها، بدليل أن سنة تكاد تنصرم من دون أن تتضح المسؤوليات وتسلسل الوقائع من يوم وصول نيترات الأمونيوم (2013) إلى يوم الإنفجار الكبير(2020)، من دون تجاهل غياب مبادرة حكومية تترجم إهتماماً بإعادة البناء والترميم.
تُوّج كل ذلك بما يشبه تنازع صلاحيات بين القضاء والسلطة التشريعية والمؤسسات الأمنية، إمتد إلى الشارع الذي اعماه الإنحياز المراهق فعلّق يافطات التأييد لهذا أو ذاك، وكادت تذكر بمسابقات ملكات الجمال أيام البحبوحة، وكان لافتا ردع مدير عام الأمن العام اللواء عبّاس ابرهيم من اتخذوا من صوره مظلّة يفيئون إليها لادعاء حماية، وانتحال قوة، وخوض مواجهة دونكيشوتية مع مجهول.
هي الفوضى اللبنانية الأبدية، التي تجعل من الحبة قبّة. فلرفع الحصانة عن النواب – الوزراء، والنواب غير الوزراء، وإعطاء الإذن ليسمع القضاء ما لدى الموظفين العسكريين، من قائد جيش إلى قائد جهاز، كلها تخضع لنصوص قانونية إجرائية، قد لا ترضي طرفا أو أطرافا، لكنها هي ما ينظم، مع القوانين والدستور، ما يحدد منهج المؤسسات في السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية.
كانت استدعاءات القاضي بيطار فرصة، ولو ضئيلة، ليقول لبنان للرأي العام الداخلي، والمجتمع الدولي، إنه لا يزال دولة قانون ومؤسسات، أسوة بدول العالم الديموقراطية، حيث يحاكم الرؤساء والنواب، علنا وفي حضور جمهور، على جرائم لا ترقى إلى مستوى جرائم حرب كحال صفقة الأومونيوم: استدعى القضاء الفرنسي الرئيس السابق جاك شيراك لسماع معطياته عن اتهامه بتوظيفات وهمية في بلدية باريس يوم كان عمدتها، وبعد أن كان رئيسا للدولة لمدة 12 سنة، وحُكِم ، ميشال لو نوار، عمدة “ليون”، المدينة الفرنسية الثانية، بالسجن لسنوات عدة، لسبب مماثل وهو الذي، كما شيراك مع باريس، جعل من ليون درّة بين المدن. وعلى مبعدة كيلومترات معدودة، جنوب لبنان، شهدت إسرائيل الكريهة والقبيحة سجن أكثر من رئيس ووزير، بقضايا فساد ورشى، أشهرهم بنيامين نتنياهو وإيهود أولمارت، وقد قدّم استقالته من منصب رئيس الوزراء، بعد اتهامه، وأفيغدور ليبرمان وموشيه كتساف.
مما كشفته زوبعة الإستدعاءت، استعداد اللبنانيين للتعصب لأي كان، لمجرد الإحساس بمكسب مؤجل، وللرؤية بعين واحدة، والتعامي كليا عن وجود قانون يساوي، في الأصل، بين الناس، فنجد اتهاما فجاً، وربما محقا،ً لصاحب رتبة وموقع، وتبرئة لخلفه أو سلفه، مع أن الظروف واحدة، كذلك الأمر حين يكون الإطلاع على صفقة الأمونيوم سببا لإدانة شخص، ومبرراً لتبرئة آخر.