الدكتور نسيم الخوري
يمكن المجادلة بالقول أنّ “مقتل” الديمقراطية ومحنتها أو نكستها في أنظمة الحكم الديمقراطي العريقة، يظهر غالباً في برودة الناخبين أوعزوفهم عن المشاركة في الانتخابات ولو بأوراق بيضاء تنزلق في صناديق الاقتراع. تتجلّى هذه الظاهرة عندما يوازن المواطنون بين المرشّحين لمنصبٍ الرئاسة أو للبرلمان ويقتنعون بأنّ لا جديد أو تغييراً منتظرا من إقبالهم على ممارسة هذا الحقّ الديمقراطي فيديرون ظهورهم. بالمقابل، نجد المواطنين يتزاحمون في الأنظمة الشمولية في مظاهر أو تظاهرات غريبة تشوّه فلسفة ما يُعرف بالرأي العام في ممارسة الناس حرياتهم وخياراتهم إذ غالباً ما تنطق الصناديق الانتخابية بفوز المرشح الواحد الأحد بما يتجاوز ال90 بالمئة من الأصوات. تتوقف المسألة إذن بين الأنظمة ومواطنيها على إمكانية البحث عن الجديد يُضيف شيئاً إلى القديم.
أتطلّع إلى الدورة الثانية من نتائج الانتخابات المبكّرة التي أفرزتها فرنسا المناطقية والإقليمية في2 حزيران/يونيو 2021 والتي مهّدت أو رسمت ملامح مفاجئة لما كان متوقّعاً، بالنسبة لهوية الرئيس الفرنسي المقبل في نيسان/ ابريل من العام المقبل. ملاحظة تاريخية مفاجئة جعلتنا نلمس لدى الفرنسيين إقراراً بفشل مثلّث أوّله فشل الاشتراكيين في الحكم منذ وصولهم قصر الإليزيه مع الرئيس فرانسوا ميتران الذي لم يكن اشتراكيّاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، وثانيه فشل اليمين الفرنسي وآخر رؤسائهم نيكولا ساركوزي محكوم بدخول السجن. أمّا الفشل الثالث فنتابعه مع الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الذي وصل الإليزيه خارج اليسار واليمين مُطلقاً حزباً جديداً هو”الجمهورية الى الأمام”،جاذباً الشابات والشباب حتّى المجنّسين منهم من بلاد متعددة وجاهداً بجعل فرنسا قاطرة المجموعة الأوروبية.
صحيح أنّ ماكرون باشر حملة ولايته الرئاسية الثانية مبشّراً بالقفز فوق”الكوفيد 19″، وصحيح أنّه صُفع من شابٍ متطرّف صدم العين العالمية ولم يُحاكم سوى بشهرين حبس مع وقف التنفيذ وصحيح أنّ رأس الجمهورية قانوناً هو موظّف عامّ مثل أيّ مواطن عادي، لكنّ الأصحّ من هذا كلّه، أنّ صفعات أقوى ستتلقّاها الأحزاب كلّها ومرشّحيها نحو الإليزيه يمكنني ضمّها في أسئلةً مُقلقة ومحيّرة للناخبين الفرنسيين:
يتساءل الفرنسي اليوم: ماذا أجني إن انتخبت مجدّداً إيمانويل ماكرون وهو لم يمضِ بنا وبحزبه الجديد”إلى الأمام” خطوةً بعدما كان يسيطر الاشتراكيون والجمهوريون تاريخياً على 82% من بالرغم من وجود 408 أحزاب في فرنسا؟
ما الفرق بينه وبين زعماء الأحزاب الاشتراكية والشيوعية والخضر التي فشلت قياداتها في بناء تحالفها وبرنامجها الموحّد وفشلت حتّى بالاتّفاق على مرشح واحد يجمعهم نحو الإليزيه؟
ما الفرق بين هؤلاء واليمين الفرنسي المتطرّف بقيادة المرشحة مارين لوبان التي زارت أميركا في الانتخابات الأخيرة وهمّها شدّ العصب المتطرّف في فرنسا والبرلمان الأوروبي تحت عنوان واحد هو الهجرةو”الاسلاموفوبيا” مع أنّ والدها جان مؤسّس الحزب يعثّر خطاها داعياُ إلى استعادة ذكورية الحزب بما جعلها تُداهن بالاعتدال المصطنع فقط للوصول إلى الإليزيه؟
الأسئلة المتضمنة أجوبتها في العزوف الفرنسي الصادم عن ممارسة الاقتراعلأنّ قناعة الجماهيرترسّخت بعدم البحث عن الجديد.وهنا ملاحظتان:
- جاءت نسبة الإقبال، على صناديق الاقتراع ضعيفة جدّا مع أنّ الدولة بكلّ أجهزتها والأحزاب ضاعفت حملاتها للإقبال على التصويت إلى درجة الدعوة بإلزام المواطنين للإقبال على الصناديق كواجب وطني وحتّى فرض عقوبات مالية على كلّ مواطنٍ يرفض هذا الواجب بما يعكّر نقاء الديمقراطية التي ارساها فلاسفة الأنوار والثورة الفرنسية.النتيجةفتور فرنسي حيالالاستحقاق الانتخابيّ.لم تفُز الأكثرية “الماكرونية” الحاكمة برئاسة بأية منطقة فرنسية الأمر الذي أسقطها نحو المرتبة الرابعة بين الأحزاب التقليدية.يمكن التفكير بالقلقالثابت بعد من خواف “الكورونا”، لكنّ المرجّح انعدام ثقة للمواطنين بإدارة البلاد خصوصاً بعدسلسلة من الأزمات بدأت ب”السترات الصفراء”، بعدما عبث ماكرون بملفّات المتقاعدين، وانشغالهبأعباء قيادة قاطرة المجموعة الأوروبية المُثقلة بالأعباء المتنوّعة.
- لم تعد تغرِ الفرنسيينربّما في عصر العولمة، تلك المواجهاتالتقليديةالمحصورة التطرّف والاعتدال،ولهذا فشلتمارينلوبن وحزبها “التجمّع الوطني”ولم تتمكّن من إنجاح ولو مرشّح واحد إلى رئاسة منطقة من المناطق أو إقليم،ولم يمنع ترشح ماكرون لولاية ثانية مثلاً من إقصاء مرشحي اليمين التقليدي المعتدلأبناء “الحزب الجمهوري” الذي خطف بحكمته وتعقّلهالأنظار عندما احتفظ رؤساء المجالس المناطقية بمواقعهم القديمة وبقوّة جعلتهم يتطلّعون بجديّة ملحوظة نحو الإليزيه.هكذا يبحث الفرنسيون إذن عن المشهد الجديد مكبّلاًبالمتغيّرات والمفاجآت القابلة للتبلور في المستقبل القريب.