يعيش عفواً “يموت” الباقون من اللبنانيين اليوم في مصعد مظلم ومتهالك بين قصورمنفصلة واحد منها لرئاسة الجمهورية وقصور متعدّدة لرئيس الحكومة المكلّف وقصر يتلمّظّ حائراً بين القصور لرئيس البرلمان. إنهارت الدولة المتعدّدة الرؤوس لتشيّد المجتمعات المذهبيّة جنونها القديم وتظهر لي الجمهورية اللبنانية محنّطة عند سنتين دمويتين لم تيبس دماؤهما بعد أعني: 1989 وال2005 إلى درجةٍ جعل الفراغ الرسمي المقيت من لبنان كرةً حمراء كارثية تسمح لي بشطب 32 سنة من أعمارنا ومن تاريخ لبنان والآتي أعظم.
يمكنني أن أُضيف 15 سنة من الحروب وأوراق العمل والمشاريع العربيّة والدوليّة قبل دستور الطائف الذي جاءعلى أنقاضها وكأنّه النصّ المؤجّل للوصايات الخارجيّة والمناكفات المميتة إذ لم تتوافر له ظروف الحياة الطبيعية لمرضى الطائفيات المزمنة.
أستعيد مؤتمرالقمّة العربي غير العادي في الدار البيضاء (23 إلى 26/5/1989)، الذي كلّف اللجنة الثلاثيّة العليا التي ضمّت كلاًّ من الملكين فهد بن عبد العزيز والحسن الثاني والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بل خوّلهم المؤتمر الصلاحيات الواسعة لتحقيق أهداف المؤتمر بوقف الحرب في لبنان وقد لعب الأخضر الابراهيمي مندوب الجامعة دوراً كبيراً آنذاك.
سألت الرئيس الصديق حسين الحسيني يومذاك عن رمزية هويّات أعضاء اللجنة المختارة، فقال بأنّ الجزائر دولة ثوريّة تطمئن الأعصاب الثوريّة في لبنان، وتُرضي المملكة العربيّة السعودية المعتدلين في لبنان مسلمين ومسيحيين، ويكفل المغرب بعض الضمانات الإقليمية الضرورية، لذا سُمّيت تلك اللجنة “واجهة السلام”.
ماذا حصل في ال1989؟
1- تعطّلت جلسة انتخاب رئيس الجمهورية (18 آب 1989) بالقصف بعدما رفض ميشال عون وسمير جعجع يومذاك إنتخاب النائب بيار حلو. حان موعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل (23 أيلول 1989) فشكّل حكومة عسكرية برئاسة العماد ميشال عون قائد الجيش لم يبق فيها إلاّ وزيران ماروني وأرتوذكسي. إنقسمت بيروت بخطوط التماس، وأقصي البرلمان عن أداء دوره، وانقسمت مؤسسات الدولة كلّها، وخصوصاً تلفزيون لبنان والأمن الداخلي والأمن العام والجيش. وتمّ إعلان الحروب على أميركا وسورية والعرب والفاتيكان وبكركي، وبدت البلاد أمام خيارات صعبة بل كارثيّة كان أقساها الحروب التي دارت بين الجيش اللبناني والقوات اللبنانية ولم تعرف النسيان بعد.
2- استمرّ لبنان إلى “موائد” النيران المتنوّعة حتى 30/8/1989 حيث رفعت اللجنة الثلاثية العليا تقريرها إلى القادة العرب مرفقة “بوثيقة الوفاق الوطني” التي شكّلت مادة نقاش شكلي لبقايا البرلمان في الطائف من 30/9/1989 حتى 22/10/1989 تاريخ إقرار الوثيقة التي تمّ تصدقها في القليعات في 5 تشرين الثاني 1989 وانتخب في الجلسة عينها رينيه معوض رئيساً للجمهورية ثمّ كُلّف الدكتور سليم الحص برئاسة الوزارة في 13/11/1989 بناءً على استشارات نيابيّة ملزمة سريعة. إغتيل الرئيس معوض في 23/11/1989 لينتخب النواب بسرعة لافتة النائب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية في 24/11/1989.حصل في 13 نوفمبر 1990 الهجوم الجوّي السوري على قصر بعبدا مُنهياً مرحلة ميشال عون منفيّاً إلى فرنسا بعدما إعتبره الرئيس فرانسوا ميتران الإشتراكي مساوياً لشرف فرنسا. هكذا بانت مرحلة نهاية الحروب عام 1990-1991 بتوحيد الجيش وحل الأحزاب والميلشيات، لتتسلّم الدولة المرافئ والمرافق العامة والمؤسّسات، بما كان يرضي قسماً كبيراً من اللبنانيين فرحين بدستور ما عرف بالجمهورية الثانية، في الوقت الذي كان يُغضب فريقاً آخر منهم معارضين لكلّ هذه الملامح والأفكار والنصوص، إلى فريقٍ ثالث محايد وواسع سُرّ بمحاولة إعادة بناء سلطات الدولة من جديد وإحلال الإستقرار.
بقي الرئيس الياس الهراوي 9 سنوات رئيساً لما عُرف بالجمهورية الثانية. يجب الإقرار بالصوت القوي أنّ صورة الرئيس رفيق الحريري وحضوره وعلاقاته كانت مشعّة وباهرة في الآفاق، وقد تجاوزت حدود لبنان الصغير والإقليم بما أيقظ حدقات العيون والرغبات الواسعة للتقرّب من هذا الرجل المليء بثرواته ومقدراته وعلاقاته الدوليّة. عندما تسلّم قائد الجيش العماد إميل لحود عام 1998 الجمهورية من الهراوي دبّ الشقاق والتناكف فوراً بين البصمات العسكرية في قصر بعبدا والبصمات الحريرية في قريطم إلى العديد من القصور الإقليمية والدوليّة. كانت من أشدّ المراحل عنفاً في تاريخ لبنان حيث سقطت كلّ الأسئلة قبل التمكن من الحصول على إجابات موضوعية نهائية عنها للتغيير بالقوّة.
كانت سرعة الأحداث التي تواترت وما زالت، قادرة على طحن الأسئلة والنزاعات الكثيرة لتستبدلها دائماً بأسئلة جديدة طيّعة وخجولة وصعبة، تماماً كما كانت الآلام والأفكار والأوهام تظهر قوية فتتلاشى لتعاود الظهور بما هو أشدّ قسوةً وأدهى ولكن الرضوخ عبر الوصايات المتعدّدة الخارجيّة كان سيّد الحال. أبسط ما يُقال في قصّة الطائف، أن لبنان رُفع عن مائدة النار الأخيرة قبل التحاقه بالسلام العام الموعود لكنّه المستحيل.
لو قلنا أنّ الدساتير تُولد بالنقاش والحوار والتواصل ومقارعة الفكر بالفكر، فهو ما لم يحصل تماماً، بل حصلت مقارعات الطائفة بالطائفة والمذهب بالمذهب لينبثق دستور جديد بإرادة دوليّة وتوافق صامت أوروبي وإخراج عربي غني وذكي وقبول محسوب سلفاً لجيلٍ من برلمانيين داهمتهم الشيخوخة وغير ذلك ف”وافقوا” على وثيقة الوفاق الوطني دستوراً مكرِّساً بديلاً عن صيغة 1943 التوافقية.
ظهر التطبيق مستحيلاً وما زال لا بسبب الوصاية السورية كما يُشاع، بل بصراحة مطلقة لأنّ السلطات والصلاحيات بقيت مشدودة ومسمّرة ولم تتخلّص من أمراض مزمنة طائفية ومذهبيّة وانقسامات حادّة تستمرّ ، بين من يرى أنّ الرئيس ميشال عون لا ولم ولن يخرج بعد من جراح 1989-1990وما بعدها كما أنّ الرئيس سعد الدين الحريري المكلّف لاولم ولن يخرج من ال2005 تاريخ اغتيال والده الشهيد رفيق الحريري،ولهذا فإنّ الجمهورية المحنّطة بانتظار أكثر من غودو دولي فوق العادة يفك تحنيطها، أو السقوط في تواريخٍ مرّة تعيد أنفاسها لا نفسها بالطبع، أو أنّ الخرائط ستسقط مجدّداً فوق الطاولات.