الدكتور نسيم الخوري
بكلمتين عاقلتين: لا للإستقواء ولا للإستعداء، لا للإستجداء ولا للإستغباء. نعم للإنتماء مجدّداً إلى لبنان مهما كانت مساحاتكم وتنوّعاكم ومندرجاتكم وارتباطاتكم وطموحاتكم وأوهامكم. لستم أبديّون، ولن يستمرّ وجودكم فوق أكتافنا وأكتاف أولادنا وأحفادنا ووطننا لأزمنة غير متناهية مستقبلاً كما تتصوّرون. الدنيا تدرك آخرتكم. لستم أزليّون أيضاً، الدنيا تعرف أين بدأتم ومن أيّ أمكنةٍ طلعتم، ويستحيل أن يستمرّ وجودكم بعد أزمنة مضت وانتهت. لستم سرمديّون تلعبون لعبتكم وكأنّكم لا أوّل لكم ولا آخر.
قصّدت هذا العنوان والإستهلاليّة إنذاراً بقرب إندلاع النيران في لبنان، لا لأنّ الكلام العالي يفترض ربّما تنظيف السلاح، بل بقصد تبريده، كي لا أقول إطفاءه بدموع الناس أو بريقهم المتطاير من حناجرهم في الشوارع والساحات، ولأنّني أختصر المشهد المرعب أيضاً، بأبياتٍ شعرية لأحدكم بصفتها عنوان الغد، مع أنّني لا أحبّذ الشعر في المقالات:
أرى خللَ الرّمادِ وميضَ نارٍ ويوشك أن يكونَ لها ضِرامُ
وإن لم يُطفها عقلاءُ قومٍ يكونُ وقودها جثث وهامُ
فإنّ النارَ بالعودينِ تُذكى وإنّ الحربّ أوّلها كلامُ
قصدت هذا، لأنّ القتال في بقايا الوطن وخرائبه، يطلّ برأسه عبر الأحاديث همساً وجهاراً وتهديداً، وتُفلش سجّاداته الحمراء عبر وسائل الإعلام والإنهيارات الشاملة الإقتصادية والمالية والنقدية والجوع نعم الجوع، وجنون الأسعار وفقدان الحاجيات الحيوانيّة للبقاء، ورفع مسلسلات الدعم المعدم الكاذب وفقدان ودائع الناس وتفجير المرفأ/بيروت الغامض والمستورد وتخويف القضاة في أسرّتهم وحصاد الكورونا المتفاقم.
ولأنّ لبنان تعرّى عقاراً مملوكاً بتاريخه وأصوله منكم خمسة أو ستّة أشخاص وكأنّه لا رعايا فيه أو مواطنين. ولأنّ آخر حبّات السبحة أمران يستوقفان:
1- فلتان وشتم وتخوين سياسي وإعلامي غير موزون ومرفوض من مسؤولين ونخبٍ بحقّ البطريرك بشارة الراعي فقط لأنّه إنتقى كلماته ونبرته وفتح مساحة بكركي ولبنان والعالم للّبنانيين المقهورين على تنوّعهم الطائفي والمذهبي والوطني داعياً إلى لملمة تفكّك “الساحة اللبنانية” الرهيب بالحوار والتفاهم وبرعاية دولية لحيادٍ نتجادل فيه وقد يقينا تجدّد الحروب القريب(لاسمح الله)، لطالما عجزتم أنتم الخمسة/الستة/ السبعة من القعود معاً والحوار العاقل الناضج على نقطة واحدة حول طبق مستديرٍ من القشّ، وفشلتم في كلّ محاولاتكم في تأليف الحكومات وأنتخاب الرئاسات وتوضيب البيانات الوزارية والإستراتيجيات الدفاعية والعلاقات العربية والدولية وضعتم في كلّ اتّجاه شرقاً وغرباَ وشمالاً وجنوباً، تأخذكم رياح الكسب والضحك الوقح و”التقريق” المفضوح العلني كي لا نقول الإستهتار الصبياني والكلام الفارغ وتبادل المسؤوليات والتهم.
لم نسمع كلمةً متواضعة منكم تتذكّرون فيها أحجامهم وأدواركم وصوركم وآدميّتكم وخطورة ما سيدبّجه أحفادنا عنكم في عصر قادمٍ من انفتاح الكواكب وتخالط البشر.
2- وعلى الهامش: فلتان وزاري وبرلماني وسياسي وديني وطائفي قفزاً فوق أكتاف الناس وفوق برامج التلقيح، بما جنّن اللبنانيين الجائعين والمرضى صحيّاً ونفسياً وجنّن اللجنة الوطنيّة اللبنانية وأغضب البنك الدولي الذي هدّد بوقف تمويل اللقاحات إن لم يفهم هؤلاء الخمسة /الستة / السبعة معاني العدالة والمساواة والحكم. وسمع العالم هدير إبن الفرزل ممتشقاً لسانه مختالاً متصوّراً أن لسانه أمضى من القديس الياس/الخضر.
شهد اللبنانيون في العقود الماضية العديد من جولات الحوار في ما بين زعمائهم وممثلي طوائفهم ورؤساء أحزابهم الذين لم يخرجوا من حروبهم للتناكف والعداء علناً وعبرالإعلام مقابل التفاهم سرّاً على تقاسم المغانم حتّى قعرالأكياس والجيوب الفارغة. يعودون للحوارات بشهيّة تجدّد الدماء والحنين للخرائب فقط لتثبيت مناصبهم. لم تنضج حلقات الحوار المستوردة أبداً إلاّ عبر تمنيّات أو بقرارات عربيّة مدفوعة وبرعاية دوليّة درءاً الفتن وضبطاً ل”القتال” النتن في الشاشات. لربّما دفنّا الحروب المتقطّعة واللجان الأمنية المحصورة مهماتها بإشعال النار وإطفائها الهش وتقاسم محاصيل المعابر الطائفية بهدف معارك متجددة.
لماذا أكتب هذا؟
يسبق الكلام النيران في لبنان، لذلك تمّ شحذ المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع في محاولةٍ ضبطاً الألسن والحبر والنتيجة صفر. ما سمعته من هذا المسؤول حول لبنان الغد، سحبني إلى ثورة ليبيا ب”عيدها” العاشر، وبالتحديد ذلك الخطاب الناري للقذافي بعد أربعين من حكمه القهّار، وقد أذهله المتظاهرون ووصفهم ب”الجرذان” ومهدّداً الناس بالتحرير”زنقة زنقة وبيت بيت”. وعلى الرغم من التباين الشاسع بين النظامين إلاّ أنّ ما سمعته من ردود فعل السياسي أمامي مسح الفروقات وتعرّى لبنان أمامي من قشوره الديمقراطية ليظهر لحم الوطن والطوائفيات والمذهبيّات وتفكّك الألحمة والجزم بالدماء. النفق مظلم بالمثالثة وضرورة تعداد اللبنانيين مذهبيّاً إلى الفدراليات والتقسيمات والمؤتمرات الدوليّة وعناوين فرعيّة مرتجلة تشحذ الشرور.
تلطيفاً لما سمعنا من كلام متفجّر، نسترجع مشادّات البرلمان وقصر بعبدا في ال2008 بما أفضى لذهاب لبنان الرسمي محشوراً في طائرة رسميّة إلى قطر في الخليج، ولربّما نطلب الحوار المطمئن في درجاته الدنيا، لنتابع صدمة فرنسا تربت أميركا على كتفها للمضي في مبادرة الإنقاذ بتشكيل الحكومة، لكنّ الألغام والتدخّلات الكثيرة جمّدت لبنان بين الداخل والخارج فصار مظلّة متعدّدة الثقوب فوق رؤوس اللبنانيين تنزاح فيها الأغطية عن تاريخٍ من الأسرار والمحاصصات والنهب والإتّهامات الآتية بالخيانات العظمى وبسط الخرائط للحدود البحريّة واتفاقات بيع النفط والغاز عبر الوثائق والمراسيم المتناقضة والتسريبات والانفعالات والصيغ التي تفقد اللبنانيون صوابهم.
النصائح الاقليمية والدولية المكثفة تدفع الآن بالطبع على الحوار الإيجابي ولو من دون نتائج حاسمة أو باتفاق على تلك الحكومة المستقيلة “المقعدة” ، وإطلاق حكومة المهمّة. أيّة مهمة بعد والعنوان السرّي واحد هو تقطيع الوقت والتهيؤ لإعادة تكوين السلطة عبر إنتظارات الخارج الطويلة المتعدّد الجنسيّات.
إنه حوار الحقائق الخمس الممطوطة، بين اعتبار إنفجار بيروت في 6 آب 2020 صفعة سخيفة وحسب يجب وقف تداعياته حتّى لا يغرق “الأفنديّة” بالوحل أكثر، وثانيها مراكمة الملاط المفقود بين بعبدا وبيت الوسط بعدما هبّت الأصوات لتعديلات الدستور الذي لم يقرأ في الجمهورية المفكّكة المحكومة بالخارج، وثالثها إعادة ترتيب السلطات مجتمعة في الحكومة عبر التنازلات والضغوط المرفوض من الناس لهبوط مطمئن مشروطٍ بحبّة أسبيرين تليين مفاصل الدولة وتحرّك عجلاتها ونسيان الإنتخابات البرلمانية المبكرة التي لن تغيّر شعرةً، ورابعها محاولة امتصاص دماء اللبنانيين الفائرة بوعود استعادة جزءاً من الأموال المهرّبة وتوسيع هامش المصارف لزيادة رساميلها،وخامسها التبشير الفارغ بمناخات الحوار كضرورة تلطّف يأس اللبنانيين وهجرتهم وتهديدهم بالخارج والتوطين واللاجئين والنازحين ومعابر التهريب التي تمصّ نخاع عظامهم، بما سيعمّق الفجوات بين المذاهب بصفتها مواطن تنافر وشروخات كبرى لم تندمل، ولها أبعاد وترددات اقليمية ودولية متحركة، وهي على ارتباط بمستقبل المنطقة والصراعات الكبرى الدائرة فيها.
إن “المرجعيّات” مهما علا شأنها عبر الإستقواء والإستعداء والإستجداء في النواحي الغربية أوالشرقية ستفشل في القفز فوق هذا الواقع الشديد المرارة بالتهديد باستعادة الحروب. وإذا كان الحوار بين اللبنانيين هو في صلب تاريخ وإعادة تكوين لبنان وطناً ثابتاً في خياراته، فإنّ العقل والحكمة تفرض قانون الإنتماء لضبط أنفعالاتهم وتراشقهم كي لا يجدوا بقايا وطنهم أخفّ من الريشة عند هبوب العواصف. وللتذكير لا تلعب العواصف إلاّ في الساحات المشرّعة.