بقلم د. بشار عيسى /سوريا
تتردد أسئلة متشعبة و عديدة من مجريات السياسة الخارجية المُنتهجة و الحالة المتردية التي وصلت إليها مجمل العلاقات الدولية ، و كلها أسئلة مشروعة و لكن لا إجابات شافية لها في واقع الأمر و المُلفت للنظر بشكل خاص هو نوع و نمط هذه التساؤلات المتعلقة بالسلوك السياسي الذي لا يستجيب لقواعد أو معايير مُتعارف عليها ، و يُعد الضعف العام الذي أصاب مضمار السياسة الخارجية ضعف صارخ لا يتناسب مع أي واقع اقتصادي أو سياسي فقد تدنت الحدود الدنيا المقبولة أصولاً و تواصل التدهور المتسارع في شتى أساليب استخلاص الحقوق أو حتى المحافظة على الاستقلال و الحرية النسبية في دوائر الحركة الدولية ، و لم يقتصر الضعف العام على هذا و حسب بل امتد ليُصيب نُظماً إقليمية و قومية فتبعثرت أطرافها بعد أن سمحت الظروف للآخرين باختراقها و تفتيت تحالفاتها و إخضاع تفاعلاتها لمتغيرات خارجية ، و لقد تجاوز هذا الضعف حدود فهم المواطن و أصبح يُدرك أنه من غير المطلوب منه المشاركة في السياسة و في معظم الأحوال يبدو أنه هو نفسه قرر ألا يكون شريكاً في صنع الكارثة التي هي لا محالة واقعة ، و هذا المواطن يعرف مصدر و درجة الخطر الأساسي الذي يهدد أمن مجتمعه و كيان دولته و يرى في نفس الوقت محاولة إقناعه بمدى إلحاح هذا الخطر المحدق ، و النتيجة الوحيدة في مضمار الرؤية هي اتساع المسافة التي تفصل بين وعي المواطن و إرادة محيطه و فقدان الثقة بينهما خصوصاً عند دخول معارك سياسية ضد خطر مزعوم لا يُؤمن المواطن بإلحاحه و جدية تهديده .
دخل المواطن تجربة المشاركة في صنع السياسة الخارجية حين ساهم بأشكال متعددة في مرحلة النضال و تراوحت تلك الأشكال بين التظاهر و التعاطف و تنظيم الأحزاب ثم جاءت المرحلة التي شارك فيها هذا المواطن في بناء بنيان الدولة و تحديد معالم خطوط سياستها الخارجية حين كانت تلك السياسة تُوضع و تُطرح كبرهان على استعادة الشعب لكرامته و لقدرته على المساهمة في بناء هيكلة نظام يضمن للمجتمعات نصيباً في صنع السياسة الدولية ، و بالرغم من أن حجم المعلومات المتداولة عن التطورات الدولية لم يكن بالقدر المطلوب إلا أنه مع قلة المتاح منها كان للمواطن هامش التفاعل بحماس و نشاط في تكثيف مرحلة عملية البناء الداخلي و بناءً على ذلك فيمكن القول بأن السياسة الخارجية لم تكن وليدة أفكار و طموحات بقدر ما كانت استجابة لكثافة مشاركة المواطن و حماسه للبناء و الازدهار الداخلي و إبداء رأيه مفعماً بالثقة فيما تم تحقيقه و ما يمكن أن يتحقق في قادم الأيام ، و لم يكن دخول عالم الإنترنت و وسائل التواصل الاجتماعي يهدف إلى تسلية الناس بقدر ما كان يهدف بجد إلى تعميق آفاق مشاركتهم و خصوصاً السياسية و توسيع مداركهم و معلوماتهم عن العالم المحيط بهم و لذلك شهدت هذه المرحلة ارتقاء الكتابات و الطروحات و حتى السينما السياسية و بالتالي كان زهو المواطن بالتفاؤل و الأمل في تشييد بناء المستقبل يُمثل جزءاً كبيراً من سعادته التي يُعوض بها افتقاره لحاجات مادية كثيرة و مستلزمات حياتية عديدة ، مع ملاحظة سير المواطن بخطوات واعية نحو الإيمان و الاقتناع بأسبقية الولاء للدولة على كل ولاءاته القبلية و المناطقية و الدينية كونها الحارس الأمين لحقوقه و الحصن الحصين لضمان مستقبله .
تعددت أسباب خروج المواطن من دائرة السياسة و جزء من هذه الأسباب يتعلق بالتطور الداخلي الراهن في المجتمعات و بعضها الآخر يتعلق بالبيئة الدولية و هذا الواقع الطويل نسبياً فصل بحدة بين الدولة و المجتمع إذ أصبح في أفضل الحالات في وضع التلقي فقط لطلبات تأتيه و لا يد له في تحديد نوعها أو كميتها أو أسلوب و نظام توزيعها و قد صاحب هذا إنشاء قوة غدت مع سبيل التطوير المستمر و الاختراعات الحديثة سداً منيعاً و جهاز وسيط ينقل للدولة ما تتصوره مطالب المجتمع و سلوكياته و أيضاً ينقل بالمقابل إلى المجتمع قرارات الدولة التي تُشذب مطالب المجتمع و تُقوم و تُصحح سلوكياته و بمرور الوقت تُصبح هذه الآلية كأي دورة عمل يومي و ينصرف الناس إلى الاهتمام بأمور حياتية أخرى و غير سياسية ، و من ناحية أخرى يشعر المواطن بالتناقض بين تعاظم القدرات لدولته و بين سلوكها الدولي في الاتجاه العام عالمياً حتى أنه يجوز القول بأن بعض دول العالم لم تُحقق خلال السنوات العشر الأخيرة أي إنجاز دولي على صعيد استعادة الحقوق الضائعة أو تدعيم القائم منها أو حتى على صعيد تأكيد المكانة و الموقع بين بقية التكتلات الدولية ، و لعل ما سبق تحديده من حدود دنيا للحقوق أصبح تاريخاً منسياً فالحدود الدنيا أصبحت حدود قصوى و استمر التدني إلى حدود دنيا جديدة و بلغ مستوى العجز و قمة الضعف حداً استحال معه على عدد كبير من الدول الاجتماع في مؤتمر يضم بعضها و يُناقش المشكلات المشتركة و بات من العسير جداً التوصل إلى تعريف واضح للأخطار التي تُهدد كيان كل دولة حتى أضحت هذه الصعوبة هي نفسها خطراً جديداً و سبباً من أسباب الضعف و في حالات عديدة أُوكلت مهمة الحماية من خطر ما غير واقع إلى مصدر الخطر الرئيسي و في غيرها من الحالات فقد عُودي الأصدقاء و صُودق الأعداء و هكذا اختلط الأمر برمته على المواطن ففقد الثقة و المصداقية و مما ساهم أيضاً في فقدان الثقة هو اتجاه بعض الدول إلى انتهاج أسلوب الدبلوماسية السرية في علاقاتها الدولية ، و لذا كان الأمل الوحيد في انتزاع حق ما من براثن دولة عظمى يكمن في القدرة على استخدام الدبلوماسية العلنية و تعبئة الرأي العام المحلي كرصيد أساسي في عملية التفاوض ، و توالت صدمات ضخمة أصابت الإنسان عموماً و الجو العام المحيط به خصوصاً و كان انكشاف عُنف أغلب التحولات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية كبيراً و هول الفقر مخيفاً و قد تلقت شعوب كثيرة خلال السنوات العشر الماضية أكثر من صدمة مؤلمة و ما زالت الصدمات تتوالى و من غير المستبعد أن تكون هناك مصالح دولية معينة لا تريد لأي إنسان الاستيقاظ قبل أن يتم رسم خرائط جديدة للعالم بأسره و هذه الخرائط لن تقتصر على الحدود السياسية للدول فحسب بل قد تتجاوزها إلى وضع و رسم حدود جديدة للثروات و الإمكانات و إنشاء كيانات مصطنعة و ما يُمهد له عبر الكثير من أشكال السياسات و طبول الحروب و هول الصدمات و فظاعة المجازر و صنوف الإذلال المتعمد هو خلق إنسان جديد بطباع و نمط لا يغضب أو يتذمر من أي خطوط للخريطة التي يتم رسمها ، و أياً كان السبب في أزمة المواطن فالنتيجة مروعة لكلا الطرفين ( الدولة و الإنسان ) إذ أن الدولة بسبب محدودية قوتها المادية المنفردة تفقد أهم رصيد عندها و أبعد عمق يحميها إذا هي فقدت مشاركة المواطن ، كما أن المواطن الذي لا يشارك قد يصحو فجأة ليجد نفسه لاجئاً في مكان ما أو ساكناً بلا حقوق .