عندما كانَ خبزُ لبنانَ فوقَ موائدِ الظلم، وكان قَدَرُ النّاسِ الإستكانةَ، ضاعَت نضارةُ الأرضِ وأَرَجُ مِسْكِها، فلم يَعُدْ يَهتزُّ قَدُّ النّرجسِ إلاّ لِحَبابِ الدّموعِ تَقطرُ منه رحمةً لِعاشقِه المُبتَلى. فالوطنُ الذي كان ثغرَ الدُرِّ والرّوضَ المَمطور، قطعَ العثمانيّون مَجراه الى الماءِ الزُّلال، وسَدّوا عنه مَناخِرَ الحقّ، وألبسوه منهم سَطوةَ الزّلازل، فباتَ أهلُه في حسرةٍ على فائِت، وفي رجاءٍ بَعيدٍ لِمُنتَظَر.
إيليا أبو ماضي المَشحونُ بالحَميّةِ لكلّ حقّ، المؤمنُ بأنّ مقاومةَ الطّغاةِ من طاعةِ الله، لم يكن في غربته غريباً عمّا ينتابُ وطنه من مآسٍ وانسدادِ آفاق، ما عمّقَ فيه جرحَ الشّوق الذي نَزَّفَه حزنُ الفراق. إنّ وجوهَ الألم لِبُعدِ المَزارِ لم تعدِّل إمكانَ الوصل، ولم تجعلِ الوطنَ من مَنقوصي الحظوظِ في صَبوةِ الشّاعر إليه، هذا الذي غاصَ في سَمْعِ الأرضِ وبَصَرِها وعَقَدَ لها الكلام، فسقى حِبرَه بالدّمع. لقد ماجَ أهلُه في ذهنه، فكانت حسرةٌ في قلبه قالَ عنها: إنّ المَشيَ على الجَمرِ أَهْوَنُ من هذا، كيف لا والعلاقةُ هي من قَبيلِ العِشقِ الذي هو أَندى على الفؤاد، أو التَهَيُّمِ الذي يأخذُ بأهدابِ العقل، فيُترَكَ البَوحُ للنَّبض. والحقُّ أنّه “لولا الشّعورُ، النّاسُ كانوا كالدّمى “.
إنّ الوطنَ مع أبي ماضي عَضَدٌ يُؤْوى إليه، نرى الدّنيا بعينيه إذا رَنَوْنا. وهكذا كانت المُمازَجَةُ التي رسمَها الشّاعر، أو هي قسائمُ بينهما صَحَّ في وصفِها القولُ: كأنّي هو فيها أو هو أنا. هذا الوَجْدُ لم يكتفِ باللّمحةِ القليلة، فتحدّثَ عن أسرارٍ نَدَّت عن صدرِ إيليّا إلى لَفْظِه، وعن ضميره إلى شفتيه، فباحَ عمّا وَصَلَ الحياةَ بالحياة وخلطَ فيه طِيبَها وحلاوتَها. وكأنّ حبَّ الوطنِ معه كالفلسفة، فهذه تَحفَظُ الصحّةَ على أصحابها حتى لا يَعتريهم مرضٌ أصلاً، ليفوزوا بالسعادةِ العُظمى. لكنّ النّفوسَ في مآربها تحترقُ أحياناً، وكأنّ بينها وبين لُقمةِ الأملِ سَدّاً، فتَكتمُ ابتلاءَها بالمستحيل وتكتفي بالمُناجاة. لقد شاركَ أبو ماضي في حُرقةِ مَهاجِرةِ الرّابطةِ القلميّةِ ومعهم قَلِقَ، فالعزيزُ مَغلوبٌ مُؤتَمَرٌ يَعرِضُ سُقماً، والنِّزالُ مع هذا الوِزرِ يُداومُ
عليه المَضَض، والحلولُ طلاسِم.
أبو ماضي أشفقَ على الزّمانِ الذي تمَّ هَتكُ مروءتِه، وأُخضِعَ لشهواتِ إيثار الباطلِ على الحقّ، فتوانى عمّا
تُعرَفُ به مراتبُ النّاس، هذه التي يَقتضي أَعلاها شعوراً بالكِلفةِ عند إرادةِ الفعلِ الخَيِّرِ أو تَجَنُّبِ الفعلِ القبيح. فالنّاسُ في الأصلِ خُلِقوا من طينةٍ واحدة، أمّا الذين انطبعوا بكَدَرِ العالمِ وأعادوا جَبْلَ ذواتِهم بالطينةِ السُّفلى، فمنهم انبثقت مقابلةُ ” تِبر وتراب”. فهؤلاء ” سَلبوا الدنيا بشاشتَها، وملأوها أحزانا”، لأنّهم كالأفعى التي همُّها نَفْثُ سُمِّها الذي يبني لسواها جحيماً ثانياً، فالنّاسُ بالنسبة لها أُنزِلوا بِلُغَةِ القهر. لقد رأى أبو ماضي في هؤلاء نفوساً بغير جَمالٍ، دَفَعَتِ الدّهرَ الى أن يَستكثرَ على الإنسان ما يُطيلُ فرحَه، فأطالَ بكاءَ قلبِه وأَدامَ عليه جُرعاتِ العذاب. إنّ الشُّبهةَ مع هؤلاءِ على مستوى حُليَةِ الدّنيا، هي قَذىً في البصائرِ كما الرَّمَدُ قذىً في الأَبصار، وقد رفضَ أبو ماضي هذه العبثيّةَ في مُقاربةِ مَفاصلِ الحياة، ودعا الى ارتشافِ دِنانِ عذوبتِها، ففي ذلك وحدَه حكمةٌ تهدُّ الثّقةَ بصناعةِ الشكّ.
أبو ماضي الذي اطمأنَّ الى المنطق، واثِقاً بأنّه متى صَحَّتِ المُقدِّماتُ حُقِّقَتِ النتائج، طرحَ السؤالَ الكَونيَّ عن الوجود، فلم يَمتنعِ البعضُ عن نَعتِه بالمُتشائم، وقد تطرّفَ آخرون واتّهموه بالجَهلِ بالرّغمِ من أنّ مقاربةَ موضوعِ الخَلقِ مشكلةٌ قديمةٌ لم يكنِ القولُ فيها فَصلاً، حتى عند أكثرِ المُوَفَّقين. لقد تعقّبَ أبو ماضي المسألةَ وحاولَ أن يَدري بقولِه : ” إنّي لستُ أدري “. فالتّجاهلُ في هذا المقامِ ليس جهلاً بل هو بَسطٌ لكلامِ مفكّرٍ مُجَرَّب، ومَشغوفٍ بما يطمئنُه على مصيره. وينتابُ الشّاعرَ، أمامَ هذا اللّغز، اعتقادان مُتَواجِهان، واحدٌ يُسلِّمُ بأنّ كلَّ أمرٍ عظيمٍ صنعَه إنسانٌ عَمِلَ بحريّة، هذه التي تقتضي وجودَ كائناتٍ تكفي نفسَها بنفسها، واعتقادٌ آخرُ ينفيها إذ يَعتبرُ أنّ النّاسَ أُلعوبةُ القوى التي تُسيِّرُهم، فلا مجالَ إذاً لمُبادرةٍ من قِبَلِ الإنسانِ تُفلِتُ من جَبَروتِ القَدَر. هذا التّسليمُ بكتابِ الدّهرِ ينتمي الى مُعتقَدِ أنّ للطبيعةِ إرادةً تتجاوزُ إرادتَنا، فالشّمسُ هي التي تريدُ أن تنيرَنا، والغيومُ تعرفُ الى أينَ تذهب. من هنا، يَهتدي أبو ماضي الى إشكاليّةٍ مُؤَدّاها أنّ مذهبَ الحريّةِ تُقصيه طبعاً مَسلكيّاتُ الفلسفةِ الماديّة، ويَطرحُ السؤال: إذا كان الإنسانُ بتركيبته جسداً وروحاً، فكيف تتمكّنُ الرّوحُ من التغلّبِ على الضّرورةِ الأساسيّةِ في المادة ؟ لذا، كان من البَداهةِ أن يُجيبَ “إنّي لستُ أدري “.
الإنسانُ مع أبي ماضي يَبكي على الأمس، ومن حقِّه أن يفعلَ لأنّه لا يوجدُ مسافةٌ على هذه الأرضِ أبعدُ من الأمس. غيرَ أن الشّاعرَ لم يُسايرْ قَدَرَ التّشاؤمِ بالمطلق، فالوجدانيّةُ التي تَجَلَّت مع كُثُرٍ وكأنّها تبتاعُ
الشّفقةَ وتنقطعُ الى الخَفَرِ في المشاعر، كانت معه مَنجماً للأملِ لأنّه لم يُجهّزْها للشكوى. فهو مع التفاؤلِ في مُجالَسة، لأنّه لم “يَرَ الشّوكَ في الورود” ولا الخضوعَ في” خشوعِ الزّاهدين”، ولم يشدّدْ على الشّعورِ حِصاراً من الذّنوب، ولو انّه كان من أهلِ الخسارةِ في الحبّ، إذ ” لمّا عرفَ الحبَّ صارَ بلا قلبٍ “. إنّ
الوجدانيّةَ التي بَدَت مع الأكثرين مُلحَقَةً بحواشي الألم، تخفضُ رأسَها أمام سُدّاتِ العواطفِ المنكسرة، قد راجعَها رونقُها مع أبي ماضي فعادت لغةَ الرقّةِ وعودِ البخّورِ وماءِ الزّهر، وهذا ما يُتْقِنُه صائِغُ الكلام.