إنّ الصّلةَ التي تجمعُ بينَ توفيق عوّاد وبينَ صناعةِ القلم , هي صلةُ نَذرٍ وقسمة . فهو لم يَلبثْ
أنْ تَبَيَّنَ منذُ صباهُ أنّه للأدب , فَرَهَنَ إبداعاتِه عندَ سُبُلِه المتشعّبة , ثمّ كانَ موعدُ فَكِّ الرَّهنِ
أعمالاً أدبيّةً لا تزالُ حيّةً في خزائنِ النفوس . والروايةُ في أدبِ عوّاد عنصرٌ له خطرُه , لأنّه
يُمشهدُ تجاربَ المجتمعِ وشؤونَ الناسِ ألواحاً تتراءى فيها الشخصياتُ والأحداث , فتكوِّنُ مستودعاً يزخرُ بتقلّباتِ الحياةِ وما يدورُ في المجتمعِ من أسباب , ويعلنُ حيازةَ عوّاد على صكِّ الإحاطةِ الشاملةِ بشؤونِ الآدميّين . واللّافتُ أنّ قلمَ عوّاد يكشفُ كلَّ دخائلِ الجماعةِ، بسحرِ حديثٍ ينبسطُ في معرضٍ أنيقٍ وظريفٍ دونَ تعقيدٍ أو تَفَلْسُف , حتى يُقالَ إنّ عوّاداً مُشَرِّحٌ فنّان .
لم يتركْ عوّاد حادثةً في المجتمعِ وفي مكامنِ النفسِ البشريّةِ تتفلّتُ من عدسةِ قلمِه . لهذا جاءَت
رواياتُه نماذجَ للحياةِ اليومية , أساسُها الخلقُ الفنيُّ البارعُ في التأليفِ بين الموجودات , يَسوقُها
نحوَ غرضٍ محدَّدٍ هو المعرفة . والمعرفةُ عندَه مجالٌ ممتدٌّ للناسِ كي يروا جوانبَ لم يدركوها
من قبل , وللحاكمين كي يُعيدوا النظرَ في استعداداتِهم والأساليب , وللأنسانِ كي يتسلّلَ الى ذاتِه ويوهِّجَ قيمَها السّامية , وللتاريخِ كي يمسكَ بوثيقةٍ ينقلُها لأجيالِ الأواتي منَ الأيّام .
إنّ العلاقاتِ المجتمعيّةَ الواقعيّةَ التي يؤسِّسُ فوقَها عوّاد بُنى رواياتِه , تجعلُه ناقداً سوسيولوجياً
يعرضُ لمقوّماتِ المجتمعِ ويكشفُ تناقضاتِها . وهو يتركُ للقارئ , من دونِ تلقين , أن يصلَ الى غائيّاتِ الروايةِ، أي الى البدائلِ المقوِّضةِ للتركيبِ الاجتماعيِّ السائد , والمتمثّلةِ بالعدالةِ والحقِّ والحريّة . وهكذا يطرحُ مفهوماً جديداً لعلاقاتِ الناس , يَصلحُ أن يشكّلَ عمليّةً قادرةً على التخطّي، وضربةً حاسمةً لما هو قائم , وقولبةً ثوريّةً للذهنيّةِ التقليديةِ التي لا تزالُ تُوَجِّهُ سلوكَها ووعيَها جذورٌ شاذّة , أقلُّ ما نتجَ عنها انغلاقُ الشخصيّةِ الجماعيّة .
إنّ العلّةَ المزمنةَ التي انفجرَت تحتَ رمادِ النفوس , تتجلّى في تسلّمِ لبنانيّي الموروثاتِ بلداً
موجوداً في العالمِ العصريِّ، فحكموه بعقليّةِ السلطان . لهذا يطرحُ عوّاد الأشكاليّةَ التالية : هل
يصحُّ أن يعيشَ جسدُنا في قرنِ الوعيِ والتحضّرِ، ويبقى عقلُنا قابعاً في زمنِ الأقطاعِ والتحجّرِ
والرجعيّة ؟ لقد استبطنَت رواياتُه كلَّ المشاهدِ وكلَّ الحياة , وعالجَتِ المجتمعَ من أقصاهُ الى أقصاه , فنقلَتنا الى ما هو أبعدُ من اللحظةِ الآنيّة , الى مواجهةِ هويّةٍ حافلةٍ بالمتغيّراتِ تجعلُنا نشعرُ بحرارةِ التجدّدِ، فتهبطُ أمامَها حماسةُ التخلّف , وينتقلُ تالياً الصراعُ من على الصفحاتِ الى صراعٍ من لحمٍ ودم .
إنّ المشكلةَ الأساسيةَ ترتبطُ بالأنظمةِ المتَّبَعةِ حولَنا وعندَنا . وهل هي صالحةٌ وجديرةٌ للعبورِ
من عهدِ الكرامةِ الذبيحِ وتشييعِ حقوقِ المواطن , الى عهدِ التحليقِ في أجواءِ الحريّةِ، وتركِ
مطارحِنا في فجواتِ الأرضِ للالتحاقِ بركبِ التاريخِ الصّاعدِ الى الكواكب ؟ ألم يكنْ عوّاد
هنا رؤيويّاً تجاوزياً شهدَ “الربيعَ” قبلَ ربعِ قرنٍ وأكثر ؟