ميشال شيحا، الذي لم يتحوّلْ معه العقلُ من حالٍ الى حال، هو فَتْحٌ أَنطقَه الفكرُ أعاجيب، فأمّنَ على لبنانَ الذي أعزَّ به اللهُ الدنيا من بينِ أمصارِها. لقد كتبَ لبنانَ فاستعذبَ في كتابتِه تعبَه، ومُختارُ كتابِه يُكتفى به عن جملةِ غيرِه. إنّ حظَّ لبنانَ فيه شبيهٌ بحظِّ أثينا القديمةِ في أرسطو، فالواحدُ منهما كان أوّلَ مَن فتّقَ أكمامَ الدستورِ فكان له منهما نصيبٌ من عناية، وبَيَّنا غرضَ وضعِه القائمَ على مدمكةِ عقيدةٍ يَطمئنُّ لها شعب، وهي موجَزُ الأُطُرِ التي تعملُ الدولةُ بمقتضاها في كلِّ الشؤون، والتي بها يُدافَعُ عن المجتمع. وقد آثرَ شيحا الأخذَ بواقعِ المنعطفِ السياسيِّ في لبنان، ووُفِّقَ الى إتمامِ منهجيّةٍ تقصَّتِ ” الفكرةَ اللبنانية “، وأَطَّرَتْها ضمنَ ظواهرِ السياسةِ والاقتصادِ والاجتماعِ وطلّةِ الوطنِ على الخارج، فأسّسَت لكيانٍ منفتحٍ على الشرْقِ والغربِ، ومُستقلٍّ عنهما.
لم يقدّمْ ميشال شيحا هيكلَ دستورٍ قائمٍ من عدم، بل طرحاً ” ثورياً ” بمعنى النّقلةِ من النقطةِ السُّفلى الى النّقطةِ العليا لترجيحِ كفّةِ الصّواب، أو إنهاضاً لنظامٍ سياسيٍّ يحافظُ على السيادةِ والمواطَنةِ، ويضمنُ حياةَ الناسِ بالسماحِ لهم بفائضِ الحرية. وهو لم يتحفّظْ في طرحِ المبادئِ التي تُنبئُ بهويّةِ أمّة، فالتحفّظُ ضربٌ من الجمود. وليس قولُه ” إنّ لبنانَ لا يشبهُ إلاّ ذاتَه ” يشكّلُ في وجودِه حيثيةً معزولة، بقدرِ ما يُعلِنُ عن أنموذجٍ راقٍ مُستساغ، أو عن أصدقِ حَظوةٍ يمكنُ تعميمُها حَلاّ لِما تتخبّطُ به الجغرافيّاتُ من إشكالاتٍ إثنيّةٍ أو عِرقيةٍ أو طائفية. إنّ لبنانَ ميشال شيحا هو نمطُ تفكيرٍ يخصُّنا، وهو نسخةٌ مبتكَرةٌ لمفهومِ الوطنيةِ الصّرفِ بإشرافِ عقلٍ نَيِّر. وهو سلطةُ المعرفةِ التي فيها من الجرأةِ حيثُ يجبُ أن تكونَ الجرأة، وفيها من الطّرحِ ما يُحفَرُ في بالِ الوطنِ ليستمرّ، وفيها من الأسسِ ما يُنجِزُ صِراطاً مستقيماً للإيمانِ بالأرضِ والحياةِ وإنقاذِ الحرية. وبهذا المعنى، يتعقّبُ شيحا الأصولَ في سِفرِ تكوينِ الأوطان، ويَبني اللحظةَ التأسيسيةَ الفارقةَ أو جسرَ العبورِ الى التمدّن. وتتشكّلُ معه فلسفةٌ مؤنِسةٌ ذاتُ بُعدٍ شموليِّ النظرةِ للكون، فلسفةُ الضوابطِ والتوازنات، فلسفةُ بناءِ الوطنِ على العالميةِ التي هي بمنزلةِ المادةِ الأولى الهيولانيّةِ القابلةِ لصُوَرِها الشريفة.
إنّ حضورَ لبنانَ مع شيحا ثابتٌ في التاريخ، ولو وقعَتْ منه أجزاءٌ حيثُ يَشاءُ الإغفال، لأنّ شخصيةَ لبنانَ ملتصقةٌ بحتميةِ الوجود، وكأنّ لا وجودَ من دونِه. وهذا ليس تصويراً كلامياً لعلاقةِ الرَّجُلِ بوطنٍ رومنسيّ، أو نزعةً تخييليةً في فكرِه الفلسفيِّ – السياسيّ، أو خاطرةً شعريةً عابرةً ( عِلماً بأنّ ميشال شيحا اعتبرَ الشّعرَ أكثرَ خلوداً من أيِّ إمبراطورية، لأنّ فيه قوةَ الروح )، إنّه خطبةٌ موضوعيةٌ وازنةٌ يُشافِهُ بها دون تكلّفٍ أو مَشقّة، ويَصحُّ وقوعُها في المَقبوليّة. لم يكنْ إثباتُ الحضورِ في التاريخِ مجرَّدَ جهدٍ عقليٍّ عقيمٍ مع شيحا، بل كان حركةً جدليّةً قائمةً على منهجٍ مُرتَّبِ الأدوات،غادرَ بها الجمودَ الذي يميّزُ الأشياءَ الميتة. فالوطنُ ليس مؤقَّتاً ليمكنَ تعديلُه، بل هو شعبٌ خلاّقٌ منفتحٌ في موقعٍ إستراتيجيٍّ هو ملتقى الحضارات، ما جعلَ منه مِحطَّ اهتمامِ جماعاتِ الناسِ ومَمَرَّها إلإلزاميَّ الثابتَ على مرِّ الزمان، وهنا يكمنُ الخطرُ منه والخطرُ عليه.
إنّ اللحظةَ التاريخيةَ التي نمرُّ بها تجعلُ المشهدَ السياسيَّ يتعثّرُ برهاناتٍ إيديولوجيةٍ تُحدثُ انقساماً في
رسمِ الخطِّ الإستراتيجيِّ للوطن، لأنّ البعضَ اعتبرَ أنّ الأهدافَ التي خُتِمَ عليها لبنانُ قد تجاوزَتْها الصيرورةُ التاريخية. وفي إطارِ هذا السياق، تبدو الحاجةُ مسوَّغةً لاسترجاعِ المفاهيمِ التي في وثيقةِ شيحا (لبنانُ في شخصيتِه وحضورِه)، ليس لصقلِها بل للتصالحِ معها بتطبيقِها، وفي ذلك حيلولةٌ دون موتِ الوطنِ ” الكلاسيكيِّ “، ودون تفريغِ الانسجامِ والتناسقِ بين مُكوِّناتِه. فالوطنُ تَرَسَّخَ مع شيحا جزءاً نَشِطاً في النسيجِ الثقافيِّ الشعبيّ، والمواطنون أصبحوا أناساً متساوين في الحقوق، خارجَ منطقِ الأكثريةِ والأقلية، ومُؤهَلين للمواطنةِ وليسوا مُجرّدَ رعايا أو أتباع. وقد شكلَتْ هذه الصياغةُ محطةً حاسمةً في البُعدِ الجيوسياسيِّ لمفهومِ الوطنِ والدولة، وتَجاوُزاً لا يقلُّ أهميةً عن أَثَرِ الثورتَين الفرنسيةِ والأميركيةِ في الفكرِ الدستوريِّ النهضوي، خصوصاً وأنّ عِلمَ الكياناتِ السياسيةِ لم يكنْ بعدُ رائجاً في خرائطِ المنطقةِ ولا في بالِ أهلِها.
لقد نقلَ شيحا إيديولوجيةَ العلاقةِ بين الوطنِ والمواطنِ من التّكليفِ الى الحقِّ ولكنْ غيرِ المُتَفَلِّت. فبعدَ الحركاتِ التنويريةِ لم يعدْ جائزاً الحديثُ عن الطاعةِ المُطلَقةِ والعبدِ والمولى، فالإنسانُ راحَ يبحثُ عن كرامتِه في حقوقِه ويطالبُ بها اللهَ والطبيعةَ والآخر. وفي رأسِ جدولِ الحقوقِ، تتربَّعُ الحريةُ المُصانَةُ مع شيحا بالدستور، والتي لولاها لما كان للبنانَ قيمة، ولَضَاعَ في آنيّاتٍ زائِلة. لكنّ شيحا ربطَ الحقَّ والحرياتِ حُكماً بمعادلةِ المسؤوليةِ كما ينصُّ عليها القانونُ المدنيُّ لا التكليفُ المُتوارَث، والتي ينبغي أن تُطبَّقَ وتَسريَ مفاعيلُهاعلى الجميعِ تحقيقاً لمبدأِ العدالة. وقد ردَّ شيحا بذلك على الذين انتقدوا الأنظمةَ الوضعيةَ وفسادَها من جهةِ تلويثِ فطرةِ الإنسانِ بالمظاهرِ المادية، وسيطرةِ القويِّ على الضعيفِ في صراعِ الأُمم، معتبِرين أنّ معرفةَ حاجاتِ الناسِ هي صفةٌ لا تتحقّقُ إلاّ في اللهِ الذي وضعَ التكاليفَ وأرسلَ مَن أَلْزَمُ البشريةَ بها فطاعَتْه.
يكفي إيمانُ ميشال شيحا بالأمةِ اللبنانيةِ نَصُّه الدستوريُّ الذي أَوجَبَ على رؤساءِ الجمهوريةِ المُنتَخَبين، بأن يُردِّدوا وهم يُقسمون يمينَ الولاء : ” أحلفُ باللهِ العظيمِ أن أحترمَ دستورَ الأمةِ اللبنانيةِ وقوانينَها، وأحفظُ استقلالَ الوطنِ اللبنانيِّ وسلامةَ أراضيه “. لكنّ ميشال شيحا بقيَ عاتِباً على بعضِ هؤلاءِ مِمَّن أَغفلَ في قَسَمِه، ربّما عن عَمْد، أنَّ اللهَ عظيم.