إنّ أَقصى ما يُطلَب من الكِتاب النَّفيس، أن يضعَ قارئَه في حركةٍ فكرية مُتَّصِلة، فإذا قرأَه لعشرينَ مرَّة يشعرُ كُلَّما عاد إليه بأنّه كتابٌ جديد يُقرَأ لأوّل مرّة. وكذا أعيانُ النّاس المُلَحاء، وفي مُقَدّمهم البطريرك صفير، والذين لن تَغيب أخبارُهم عن الكثيرين، في كلّ مرَّة نُجالسُهم يُماطُ اللِّثامُ عن يقظةٍ تُشبِه دهشةَ الوَعي كلَّما راجَع فلسفةَ اليونان.
نصرالله البطريرك، الرَّجل الذي عجَنَته السّنون، إن عرفْتَ بقدومه يستفزّك الفرحُ قبل رؤيته، ويهزّ عَطفَك الإعجابُ في حضرته، فلا تَدري أَهو غيثٌ حَلّ بِوادٍ ظَمآن، أو هو غَوثٌ سيقَ الى لَهفان ؟ فهذا العظيمُ المُثَقَّف المولَع بالوطن، هو من البَرَرَة الأَتقياء، ما غالَطَ يوماً في مواجهة، وهي معه صنيعةٌ تلقائيّةٌ نطمعُ بها مع عَجزنا عنها. والمواجهةُ هذه تحتاج الى رَجل، والى قرارٍ ومُبادَرة، أتى فيهما البطريرك الى آنِهِ على الكِفاية، وكأنّه المعلِّمُ المُندَفِع الذي يُدركُ أنَّ المنفعة ممّا يَعرف ويعمل تذهبُ للمُتَعَلِّم من دونه، ويُسَرّ. من هنا، كان أرضاً رَشيحة أنبَتَت ” كيفَ يتغلَّبُ الإنسانُ على الدنيا”، وصِنوَها الوطني ” كيف يتغلَّبُ اللبنانيّ على الذلّ “، وهما ثابتان مُطَعَّمان بروحِ البطريرك الباقية وكأنّها التَّرصيعُ في أَلوان الخَزَف.
إذا كان هناكَ مواقفُ من فضّة، فمواقفُ صفير من ذَهب، وهو الرّجلُ المَكدودُ من عروق الصّخور، والصّامدُ طالما الزَّمانُ زمان. فاللّاهوتُ الذي يُكَرَّم لِفَضله، لم يكن وحدَه مع البطريرك حجَّة المَنجاة التي يَقصدُ إليها الطّالِبون، فالدّماثةُ والأناقةُ الحِواريّة والرقَّة في الإستقبال والتّواضعُ والعِلمُ الوفير، وهي نُبلٌ صارَ اليومَ تركيبةً نادِرة، كانت الوجه الثاني في خلقٍ كريم يُنسَخ عنه. وصفير هَبوبٌ إليها، تتَّحدُ بحَمِيَّةٍ في سلوكه، ليًكَوِّن نُسخةً دامِغة عن المسيحيّة الصِّرف.
أما الثَّفافة، وهي سُنَّةُ الأذكياء، فهِمَّتُه إليها قاطِعة. لذا، كان العلاّمةَ الشَّغوفَ دوماً الى المعرفة، فافترشَ بساط المَعارف في مذاهبها، وكان من سُلاّكها، وكانت له معها أحوال، وكأنّه فيها من جماعة الوَرّاقين أصحابِ الفِكر النَيِّر والذاكرة الواسعة، والذين لم يبقَ من نُظرائهم إلاّ اليسير. وما محادثتُه في أيّ مجلس، إلاّ الدّليل على أنه من المُحتسَبين في المعرفة، يُشارِكُ بعِلمٍ في كلّ نقاش، بفصاحة وبلاغة جعلَتاه سيّدَ الكلام الذي يُحسنُ بيانَه بطلاقة. فهذا المُحَدِّثُ المُتعدِّدُ الإستلقاء على جوانبِ الفَهم، تُصيبُ سِهامُه مَلاعبَ الدَّهشة، مُتنقِّلاً بتَرتيبٍ من حديث الى حديث، ومن قصة الى قصة، مُستَطرِحاً مختلفَ الموضوعات بسلاسة وعمق، حتى لَتَحسبَ أنّك في حضرة مَلافِنةِ الزّمان، ولا مُبالغة.
البطريركُ الكبير، فيَّاضٌ في تثقيف الوطنية، فكلامُه الذي ينزُّ من ينابيع صدره، والمُستَنخَبُ من معادن قناعته، رُفِعَت له الأَسماعُ في المَحافل، كما فَعلَت عندما تَنكَّبَته المَنابر. ففي أندية الوطن، كان حيثُ إقبالُ الكِبار، فلم تكن مواقفه خابِيَةَ المصابيح، بما أُودِعَت من خَطراتٍ فيها أَنّ الكرامةَ شريعة، وأنّ الإيمانَ بالأرض مصالحةٌ مع طقوسِ القداسة، وأنّ العنفوانَ شريانٌ يُطَهّرُ من الخنوع، وأنّ الثّباتَ سلطانُ الأقوياء، وأنَ المواجِهين الشّرفاء هم وحدَهم أَقرباءُ الوطن. من هنا، كان هذا العظيمُ رَجلَ صَوتٍ وتأثير، متمرّداً يُنشِئُ في أَذهان سامعيه مقاماتٍ لا يستطيعون نسيانَها. ففي الندوة الوطنية، حيث مُحرِزو السَّبق في الجبانةِ والخيانةِ كُثُر، وكُثُرٌ أيضاً مَن يُلقون الكلام على عواهنه قَعقَعَةً في غير نفع، كان من الأقلّين الذين لمّا يزل ظلّهم مُعلَّماً في جبّةِ الوطن.
بعدَك سَيِّدنا، البكاءُ على الأحياءِ مُتواصِل…..