في ٢٦ نيسان عام ١٩٤٨ سقطت يافا بعد أن غادر أهلها قسرا من بطش المنظمات الصهيونية الإرهابية بعد أن كان أهل يافا يسمعون أجبار المجازر التي ترتكبها هذه المنظمات خصوصا في القرى مثل قرية دير ياسين أو الطنطورة أو يازور التي لا تبعد كثيرا عن يافا مدينتنا الحبيبة.
قبل لجوئنا وعائلتي التي كانت تتكون من سبعة أفراد ، هم والدي المجاهد حلمي أبو خضرا ووالدتي رحمهما الله، واختي المناضلة سلوى، رفيقة درب الرئيس الرمز أبو عمار وباقي الأخوة المجاهدين، وأخواي المرحومين سعد ورشيد وأنا.
كان، ومايزال، بيتنا بحي النزهة في يافا، والقريب جدا من جامع النزهة الذي كنت أصلي به في الصباح قبل ذهابي الى مدرسة العامرية، وكنت في الثالثة عشرة من عمري، واذكر تماما ما حصل من الهروب الجماعي من يافا جنوبا الى غزة أو بحرا الى بيروت ثم الاردن ثم الى دمشق، وكانت وجهة هروبنا الى دمشق حيث ان والدتي رحمة الله عليها سورية توفيت بعد سنة من النكبة.
في هذا المقال الذي يثير كل تلك الذكريات المحزنة أردت أن يشاركني القراء بما حصل والسبب الحقيقي لهروب أهل يافا الجماعي، واذكر الوالد والوالدة كانا في حيرة من أمرهما وكانت المراهنة على قدرة الصمود والبقاء في مدينتنا يافا والتي لم أر في حياتي العملية والسياسية أجمل منها، بعد ان بلغت الخامسة والثمانين من عمري.
نحن الصغار في حينه الذين لم تكن أعمارنا تزيد عن الخمسة عشرة عاما كنا نركض وراء الشباب في مظاهرتهم اليومية ضد الجيش البريطاني المجرم المسؤول الحقيقي عن نكبتنا، والذي فتح أبواب بلادنا فلسطين أمام هجرة اليهود الاشكناز ومعهم جميع أنواع الأسلحة التي حصلوا عليها من الجيش البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية.
كل هذا كان يحصل مقابل وعود من سبعة دول عربية تدعي بانها ستحرر فلسطين بكاملها من قطعان اليهود الاشكناز الذين أتونا من بلاد الاشكناز شمال ألمانيا وجنوب روسيا وحتى بحر قزوين.
بالنسبة لي اذكر جيدا كيف كان الوالد رحمه الله يغيب عن البيت لأيام ويعود محملا بسلاح لا يقارن أبدا بسلاح الصهاينة، ولكن بعزيمة المجاهدين وصلابة إيمانهم في بلدهم يافا حيث كانوا بشجاعتهم يصنعون المعجزات في شارع يافا- تل ابيب، الذي كان ساحة حرب حقيقة، ولكن مع الأسف لم يكن لدينا السلاح الكافي والذخيرة الكافية للدفاع عن يافا، خصوصا ان جيراننا الزعماء العرب كانوا لا زالوا يجتمعون لأخذ قرار الحرب ضد المجرمين الاشكناز المدعومين من الجيش البريطاني.
وفِي هذا العمر الذي كنت فيه رأيت مصفحات الجيش الأردني تجوب شوارع يافا، نحييهم و نصفق لهم اعتقادا منا بانهم سيدافعون عن مدينة يافا التي تعتبر اكبر مدينة بعد القدس الشريف.
طبعاً بالنسبة لي ظلت الذكرى أقوى من النسيان لأنني ولدت في يافا واستمتعت ببحرها الذي لم ار اجمل منه، وكان أخي سهيل، رحمه الله، يأخذنا انا وأخي سعد على دراجته الهوائية الى تلة العجمي، واذكر شجرة الجميز التي كانت هناك قبل وصولنا الى بحر الدعدع، حيث نمضي يومنا على ساحل هذا البحر الجميل، ومن ثم نعود الى البيت مرهقين، نتعشى وننام حتى صباح اليوم التالي، ليعود كل منا الى واجبه اليومي أي بالنسبة لي الصلاة في جامع النزهة ومن ثم الى مدرسة العامرية.
ولكن الوالد كان في عالم آخر ،حيث سافر الى الاردن وسوريا عند رفاقة في الجهاد وعلى رأسهم عبد الرحمن الشهبندر ونسيب البكري وأكرم الحوراني و غيرهم من المناضلين ، والذي اذكره انه كان قد حصل على بعض السلاح من البلاد التي كان يزورها ويهربها خوفا من القبض عليه من السلطات البريطانية . ومن ثم يعود الوالد الى يافا ليسلم السلاح الى المجاهدين على خط النار بين يافا وتل ابيب.
ومن ذكرياتي ان الدول العربية المحيطة بنا كالاردن وسوريا ولبنان و مصر كانت خارجة من الاستعمار البريطاني والفرنسي، ولكن الحقيقة انها لم تكن مستقلة استقلالا كاملا.
كان زعيم الأمة الحاج أمين الحسيني في منفى خارج فلسطين، ويمثل فلسطين في الجامعة العربية المناضل موسى العلمي، ولكن مع الأسف لم يكن له أي نفوذ وله الحق فقط في ان يستمع الى ما سوف يقوم به ملوك و زعماء العرب ويبلغونه بأنهم لم ولن يتركوا واجبهم الوطني في الدفاع عن فلسطين .
وهنا يجب ان تقال الحقيقة بان الزعماء العرب جميعهم من ملوك وزعماء كان هدفهم الأول فعلا هو الحفاظ على الهوية العربية الفلسطينية والمدافعين عنها خصوصا في الأمم المتحدة، ولكن الغرب وعلى رأسه بريطانيا وامريكا وأوروبا خانوا جميع ما تعهدوا به ، أي ان الخيانة كانت غربية اوروبية وامريكية.
كان آخر اجتماع لمندوبي ملوك ورؤساء العرب في صوفر، وللأمانة فان المندوب الوحيد للعاهل السعودي الملك عبد العزيز، رحمه الله، وهو الشيخ يوسف ياسين من اصل سوري، هو الذي طلب من وزراء الحرب او الدفاع العرب بان يمدوا الفلسطينيين بالسلاح والمال والعتاد، ولكن كان الرفض بالإجماع وان من واجب العرب بان تقوم الجيوش العربية بدحر الصهاينة، على ان تكون قيادة الجيوش العربية بيد الاردن، وبقيادة الجنرال كلوب باشا، قائدا للجيوش العربية.
طبعاً بالنسبة لي، كنت طفلا ولكن الحمد لله اذكر تماما بأن والدي رحمه الله، وفِي اخر رحلة له الى الاردن وسوريا قد ذكر بأن احمد الشرباتي، وزير الدفاع السوري، قد قال له بأن “القضية الفلسطينية في أعناقنا ، وأهلا وسهلا بكم هنا في سوريا وتأكد يا أخ ابا سهيل بأن بلادكم ستعود كاملة بعد شهرين على أكثر تقدير لأننا مسلحين جيدا وبريطانيا لا يمكن أن تخذل الملك عبدالله ملك الاردن ولذلك قررنا ان يكون الجنرال كلوب باشا قائدا للجيوش العربية”.
عاد الوالد من سوريا وهو في منتهى الغضب والعتب على ما سمعه من كلام بدون تنفيذ، واذكر جيدا انه عندما وصل الى البيت في يافا، كان صامتا كالصخر وكنت صامتا مع والدتي وأختي المناضلة سلوى -أم محمود- لا يقوى احد على مخاطبته، وخشينا ان نؤذيه اذا تكلمنا، وخشي ان يبكي اذا نظر إلينا، وفجأة رأيناه يدخل الى غرفة نومه ويخرج منها سلاحه الشخصي، وقال: لقد نفذ سلاح المجاهدين، وهل بهذا المسدس أستطيع ان أدافع عن يافا؟ وردت عليه أختي المناضلة سلوى: مادامت الجيوش العربية في الطريق لنجدتنا فلماذا نرحل؟ وكان رد الوالد والدموع في عينيه: هل تريدين ان انتظر وأرى بأم عيني ان يأخذوا والدتك وانت سبايا الى أن تأتي الجيوش العربية؟!
وقد أدرك الجميع بأننا في وضع لا يسمح لنا إلا بالمغادرة المؤقتة حسب قرارات الأمم المتحدة، ولا يمكن لأي قانون في الدنيا ان يمنعنا من العودة الى بيتنا وأملاكنا. لكن الوالد كان يعلم ما تعنيه الأمم المتحدة لان المؤامرة وصلت الى عنق الشعب الفلسطيني.
قلت لوالدتي ونحن متجهين منم فلسطين الى دمشق بأنني أريد الجلوس في المقعد الخلفي كي أودع بيتي ومدينتي وبحر الدعدع وشجرة الكينا التي حفرت جذورها أمام بيت جيراننا آل خلف وآل حجازي ، وكان لي ما أردت.
ويوم السادس والعشرين من من نيسان كل عام اذكر يوم الرحيل وما زال الأمل في العودة يعتمل في نفسي لان الحق لا يمكن أن يضيع ولا بد أن نستعيد حقوقنا حتى لو بعد ألف عام، لأن اللاجئين من أبناء الشعب الفلسطيني وأنا واحد منهم لا يمكن أن يتنازلوا عن حقهم في العودة الى مسقط راسهم فلسطين، لأن فلسطين هي ملك أزلي للفلسطينيين ولا يمكن للاستعمار أن يمحو حق شعبنا الطبيعي في دياره ووطنه فلسطين، رغم عصابات الاشكناز التي اتتنا من الغرب وتسببت بالتآمر مع هذا الغرب وخاصة بريطانيا في نكبة عام ١٩٤٨.
كنا نعتقد بان الغرب لديه بعض من القيم والأخلاق والديمقراطية وحقوق الانسان، وضد التميز العنصري، ولكن مع الأسف خذلنا الجميع في الأمم المتحدة، وأصبحنا لاجئين، خصوصا بعد ان وقعت دول الجوار هدنات دائمة بدون طرح شرط عودتنا الى وطننا فلسطين.
و قد خيم الحزن علينا بوفاة حبيبتي الوالدة بعد سنة من الهجرة، ولم يتحمل الوالد وفاة شريكة حياته فتوفي بعد ثلاث سنوات من وفاة الوالدة رحمهما الله، و لم يتجاوز الثانية والخمسين من العمر.
كما أتذكر بأن شكري القوتلي الذي كان رئيس جمهورية سوريا سلم الوالد التابعية السورية وجواز سفر سوري وعرض عليه ان يكون سفيرا لسوريا في اسبانيا، فشكرة الوالد، ورفض العرض وفضل البقاء في دمشق ليعمل في مؤسسة الاونروا كمترجم معتقدا انه لربما تكون العودة الى مدينتنا يافا قريبة.
ما من شك ان القيادة الفلسطينية في حينه بزعامة الحاج أمين الحسيني ثم احمد الشقيري ، ثم الرئيس الرمز الراحل ياسر عرفات ومن بعده الأخ الرئيس محمود عباس قد وضعوا القواعد والأسس للنضال بما في ذلك النضال الشعبي الذي لم يتوقف، والسياسة الحكيمة التي كشفت وعرت العنصرية الصهيونية، حتى ان العالم اجمع اصبح يتعاطف مع فلسطين وشعبها ويعترف بالأخطاء التي ارتكبها ضد الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض الذي تم تهجيره قسرا من وطنه فلسطين من الناقورة حتى اسدود وأم الرشاش ومن النهر الى البحر.
حبيبتي يافا لم ولن أنساها واولادي وأحفادي لم ولن ينسوها مهما طال الزمن والحق لا يمكن ان يضيع بالتقادم، ونحن وهؤلاء المحتلين الصهاينة وحلفائهم في الغرب وخاصة أميركا والزمن طويل.. والله المستعان.