لكن……..قبل ذلك:
دار حوار بيني وبين صديق في باريس حول العنوان الأساسي لهذا المقال:
الإستعمار الداخلي في لبنان
وكان له رأي مختلف وصائب.
قال أن مصطلح الإستعمار مشتق لغويا من العمران والإعمار، إلا أن العالم الثالث لم ير من هذا المصطلح سوى الجانب المظلم الذي يفسر معاناته.
إن ما قيل عن الإستعمار الداخلي في لبنان وغيره ينطبق عليه أكثر صفة “الإستدمار” الداخلي بما يتضمنه هذا المصطلح المبتكر من نهب وسرقة ودمار.
الى المقال بعنوانه الجديد:
“الإستدمار في لبنان “
عثرت على ورقة في خزانة النائب اللبناني المرحوم فريد جبران وفيها أنّه زار الرئيس فؤاد شهاب للقيام بواجب التهنئة بعد إنتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية، وقدّم إليه مذكّرة مطلبية مشكولة أدرج فيها العديد من الملفات والقضايا الإجتماعية المرتبطة بالفقراء والمعوزين مثل تحقيق المكتب الوطني للدواء وقوانين الإيجارات لصالح الطبقات المسحوقة والتعليم المجاني وإصلاح الإدارات والضريبة التصاعدية وغيرها من المسائل المزمنة والشائكة والتي لم تجد طريقها إلى القرار في تاريخ لبنان والتي أفنى النائب فريد جبران حياته وهو مناضلا لأجلها في الندوة البرلمانية سواء أكان في إطار الحزب التقدمي الإشتراكي الذي كان أحد مؤسسيه مع الزعيم كمال جنبلاط أم في الأطر النقابية والعمالية المتنوعة.
وكان الجواب التاريخي المعبّر للرئيس فؤآد شهاب الذي خاطبه على الفور:
“لقد خلصنا من الإستعمار الخارجي يا أستاذ فريد، ولكن المهم أن نبدأ سويا ورشة التخلص من الإستعمار الداخلي”.
قال: ماذا تقصد؟
أجاب: الفاسدون وآكلة الجبنة بعد إقتسامها طائفيا ومذهبيا وحزبيا هم أسياد الإستعمار الحقيقي الداخلي الذي يخرب لبنان.
أطرح هذه الورقة محاولاً عصر جبال الكلام والنصوص المتشظيّة والتائهة في موضوع الفساد لأهمس بأنّ الرئيس شهاب الضابط الذي خرج من المعجن العسكري إلى قصر بعبدا رئيسا للبنان هو الذي أرسى بعض الدعائم الحقيقية الأولى لمحاربة هذا الإستعمار. لا داعي للإسترسال في تدوين منجزاته الكثيرة ونضالاته الضخمة في التغيير ومعاناته المؤلمة إزاء “المستعمرين” اللبنانيين، بل أكتفي بالإشارة إلى قصّة أخرى معروفة ومعبّرة:
قام الرئيس فؤآد شهاب قبل أن يغيّبه القدر بأيّامٍ خمسة بإخبار الضابط الذي كان يرافقه أنّه أقدم في 21 نيسان 1973 وهو في حالة قنوط شديد من السياسة والسياسيين في لبنان من حرق صناديق ثلاثة تحتوي الكثير من الأفكار والأوراق والأسرار والتقارير والملاحظات والوقائع والمراسلات التي تختصر ربّما زبدة القهر في عهده وقناعاته وألمه من رجال “الإستعمار” وقل رجال “الإستدمار” اللذين دمروا ويدمرون بقايا لبنان.
لقد أورد الكاتب جورج ناصيف في مؤلفه ” جمهورية فؤآد شهاب” هذه الواقعة مضيفاً إليها شهادة السيّدة الأولى Rose René روز رينيه زوجة فؤآد شهاب التي أسرّت للكاتب:” لقد أحرق فؤآد كلّ أوراقه ولم يبق على ورقة واحدة كي لا يكذب، لأنّه لا يستطيع أن يكتب كلّ ما يعرفه الناس. وأضاف بأنّ الناس لن يصدّقونا يا روز.
أخرج من هاتين الواقعتين المعبّرتين إلى نماذج من القادة البعيدين والغائرين في تاريخ بناء بعض الدول مقابل معاناة القادة الأقربين ومكابدتهم مع السياسيين في بناء أو إعادة لبنان تلك الزهرة La Rose المشكولة بديمقراطيتها و”النافذة الملوّنة في الجدار العربي ” وفقاً لحبر الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل. وأعني بالقريبين الرؤساء الذين خرجوا بعد فؤآد شهاب ومثله من المدرسة العسكرية إلى القصر الرئاسي في لبنان أي إميل لحّود وميشال سليمان وميشال عون وقد يمكن إختصار عهودهم بمناخ من التجاذب المعقّد بين العقل السياسي والعقل العسكري في لبنان، وهو ما لن نلمسه بهذه الحدّة عبر فلش نماذج من التاريخ.
كيف؟
أعود إلى الإسكندر المقدوني” ذو القرنين” ضابطاً عصر أرسطو وعصارة الفكر الإغريقي وحمله ليبشّر به في بلاد فارس والعالم. أليس لهذا الفكر المقيم في جامعات العالم وتاريخه مؤشّر على تلك صلة التي دمغتها اليونان بضرورات التربية العسكرية والبدنية لأبنائها من أجل صحة اليونانيين كأمة ناشرةً الفلسفة في التاريخ؟
ما أن استوينا أمام المستشرق الفرنسي جاك بيرك في مدارج الكوليج دو فرانس العريق حتى باشر في محاضرته الأولى: قال أرسطو وتابع رابطاً بينه وبين الأسكندر.
قال أرسطو منذ 2500 سنة وهو مستمر والإسكندر مثالاً حتى تعب التأريخ.
أيجوز حذف التأريخ لعصر النهضة العربية في العام 1789 مع دخول الضابط نابليون بونابرت الى مصر متناولاً الحرف المطبوع من حاضرة الفاتيكان ليزرعه مطبعةً أولى في بولاق؟ إنّه وعلى الرغم من الإعتراضات المنهجية الكثيرة التي تناولت بالنقد والرفض والتغيير لهذا التاريخ من قبل باحثين في الفكر السياسي والآداب، فإن نابليون يحتل مرتبة قائمة في التاريخ الإنساني من حيث قدرته على إحداث انقلاب فعلي في الفكر والحضارة، طبعاً من دون إهمال الفكرة أنّ نابليون جاء مضمّخاً بفلسفات “عصر الأنوار” الواضع أحجار الحرية والإخاء والمساواة والعدالة المكلفة قبل تحقيقها في مسار البشرية.
أليس الضابط ايزنهاور رئيس الولايات المتحدة الأميركية وصاحب العهد الذهبي في إخراج بلاده بشكل واسع نحو العالم، والقائل أنّ أي رئيس لن يدرك مكانته، ولا يكتمل تاريخه إلاّ بإعلان نهجه الصارم الخاص لإشاعة الأفكار الأميركية في العالم؟
ماذا عن الضابط العربي جمال عبد الناصر الذي دمغ الأحلام العربية بنبرته الرائعة والصلبة في الوحدة والقوة العربية؟
الإستعمار الداخلي في أبسط تعريف له هو الطائفية والمحاصصة الحزبية والرشوات والسمسرات والمحسوبيات والإستزلام وما ينتج عنها من يأسٍ تقيح به وسائل الإعلام في المحيط وخصوصا في لبنان المستدمر لا المستعمر من سياسييه وشعوبه الطائفية والمذهبية.
لا مغالاة في ضمور الأمل بورشة تقضي على الفساد لأنّ عقلين لم يتآلفا في الحكم ومفاهيم الإصلاح عقل يحكم لبنان بكونه عقار قديم له مالكوه القدامى وعقل عسكري أو متجدّد مدني يكابد بدوره، بهدف التخلّص من هذا الإستعمار /الإستدمار الداخلي الذي نغّص الرئيس فؤآد شهاب، بالرغم من فتحه أوّل ثغرة واسعةً في الإدارات ومحاربة الإمتيازات الحصرية التي جعلت السلطة المغمّسة بالطائفية متشظية على التجار وأصحاب المصالح و”ومقتسمي الجبنة”. وأكاد أجازف اليوم من بعيد بالقول أنّ تلك الثغرة سدّت في وجه الأجيال والآفاق في إنتظار غودو أو ما لسنا ندري لتنظيف هذه المساحة الصغيرة وإنارتها وتخليصها من وسخ التخلف والإنقسامات والإنهيارات والإستدمارات.