جلس فادي على الاريكة قرب والده يسائله عن ضيعته بيت شباب وعن تاريخها وعن معنى اسمها الذي يبدو غريبًا بعض الشيء. لماذا بيت شباب وليس بيت البنات؟ ولماذا كثرة الكنائس الموجودة فيها؟ اسئلة اسئلة كانت تراود افكار الفتى وتتراكم على الوالد، الذي لم يجد مناصًا من ان يشفي غليل ولده ويقصّ عليه حكاية “ضيعة الضيعات” وحكاية جرسها الشهير الذي يكاد يكون وحيدًا في كل لبنان والشرق.
بيت شباب يا بنيّ اسمها سرياني “بت شبابو” ومعناه بيت الجار او الجيران وهي من كبيريات بلدات المتن الشمالي وكانت فيما مضى عاصمة القاطع الممتد من بكفيا حتى نهر الكلب. وقد أحُرقت مرتين: المرة الاولى حين هاجمها ابراهيم باشا سنة 1840 والمرة الثانية حين أمر بحرقها المتصرّف داود باشا عام 1867 لانّ اهاليها استقبلوا يوسف بك كرم.
امّا كثرة الكنائس فيها يعود الى كون ابنائها احبّوا ان يكون لكل عائلة كنيسة خاصة بها؛ ممّا جعل عددها يصل الى خمس عشرة كنيسة منتشرة من اول البلدة الى آخرها.
امّا لماذا اشتهرت بيت شباب دون سواها بصناعة الاجراس والى متى يعود تاريخ هذه الحرفة وهل لع علاقة بكنائسها فالقصة تستحق ان تعرفها وترسخ في ذهنك.
بداية القرن السابع عشر وبعدما قدم الامير فخر الدين الى بيت شباب عام 1605 اثر انتصاره على ابن سيفا في جونيه، قصد البلدة بطلب من المطران ، صناعي روسي ليعلّم احد ابناء المنطقة صناعة الاجراس بعدما كان يتطلّب وصول الجرس من اوروبا الى لبنان ستة اشهر.وتعرف على يوسف نفاع وكان موهوبًا ويعمل في صناعة الاسلحة وركابات الخيل، ويحبّ العمل اليدوي وحازقًا وفنانًا، فاعجب به وعلمه سرّ صناعة الاجراس وكيفية مزج المعادن كالنحاس والقصدير ببعضها البعض كي لا تظهر عليها الشقوق والخدوش. وبعدها فسّر له كيف تجبل الحوّارة او التراب الخاص بالقالب الذي يُذاب المعدن بداخله. ثم الاسلوب الخاص المتبع لوضع القالب في الشمس عرضة للهواء لكي ينشف ويعشق “الدلغان” نفسه. وهذا النوع من التربة موجود في اماكن خاصة من البلدة ويجب استخراجه من الارض في اوائل فصل الربيع. وبعد إتمام هذه العملية يُصار الى إيقاد النار في الفرن بواسطة الحطب والعمل على إبقاء درجة الحرارة مستقرّة لكي ينزل المزيج المعدني عبر انبوب خاص ويصل الى داخل القالب ببطء حيث يجمد تدريجيًا محافظًا على نقائه ويكون مالسًا ناعمًا ولا تشقق عليه. وبعد مرور بضع ساعات على هذه العملية، يُصار الى إزاحة القشرة الخارجية او “الحوارة” ويسحب الجرس المعدني بواسطة الحبال ويُعلّق وسط البهو الكبير، ويتمّ تعليق “الضرابة” بداخله وتبدأ التجارب للتأكد من صوته ومن رنته ومن كونه يستطيع إحتمال “التربيع”.
امّا سر الصناعة فموجود عند عائلة نفاع منذ حوالي اربعمئة سنة وقد توارثها الابناء عن الاباء والاجداد وبقيت الفكرة معهم ولم يستطيع احد سواهم إكتشاف اصول هذه الصناعة وخفاياها وخصوصًا المزيج المعدني والمقادير اللازمة من كل معدن.
وقبل البدء بعملية الصبّ كان آل نفاع يبعدون كل غريب الى خارج المعمل ويتلون “رقية” خاصة بابعاد عيون الحُسّاد، ثم يرددون صلاة الارواح الشريرة. ما زال حتى اليوم آل نفاع محافظين على صناعة الاجراس حريصين على تعليمها الى ابنائهم واحفادهم وما زالت كل كنائس الشرق وحتى اميركا وكندا تُصنع اجراسها في بيت شباب عند آل نفاع، حيث التاريخ يحكي عن ابناء الجبل اللبناني الذين فتتوا الصخر وحوّلوا الارض اليباس الى جنّات خضراء زاهرة، وعن عائلات عرفت كيف تجعل من الصنعة صناعة ومن حب المعادن علمًا حوّلها الى اجراس رددّت صدى رنينها الجبال والوديان داعية المؤمنين الى التقوى والصلاة.