بمناسبة الذكرى المئوية الأولى على إعلان دولة لبنان الكبير، نظم مركز دراسات الأقليات في الشرق الأوسط في جامعة الروح القدس – الكسليك مؤتمرًا دوليًا بعنوان: “الجماعات الوطنية اللبنانية 1920 – 2020: ملاحظات وآفاق”، في حضور السفير البابوي في لبنان المونسنيور جوزيف سبيتيري، قدس الأب العام نعمة الله الهاشم الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية والرئيس الأعلى للجامعة، وجمع من المطارنة والنواب السابقين والسفراء والآباء المدبرين في الرهبانية، المدير الإقليمي للوكالة الجامعيّة الفرنكوفونيّة في الشرق الأوسط إيرڤيه سابوران، المقرر الخاص لدى الأمم المتحدة حول قضايا الأقليات البروفسور فيرنان دو فارين، النائب الأول لرئيس الجامعة ومدير مركز دراسات الأقليّات في الشرق الأوسط الأب البروفسور يوحنا عقيقي، نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية البروفسور يحشوشي ممثلًا رئيس الجامعة الأب البروفسور جورج حبيقة، وحشد من الشخصيات السياسية والدينية والتربوية والاجتماعية والثقافية…
الجلسة الافتتاحية
الأب عقيقي
استهلت الجلسة الافتتاحية بالنشيد الوطني اللبناني، تلاه كلمة تقديم للآنسة ماري نويل خطار، ثم ألقى النائب الأول لرئيس الجامعة ومدير مركز دراسات الأقليّات في الشرق الأوسط الأب البروفسور يوحنا عقيقي كلمة بعنوان “هويّة لبنان التاريخيّ الواحدة والمتعدّدة”، وجاء فيها: “بلد الرسالة أو نتاج الانتداب الفرنسي؛ جمهوريّة مستقلّة بالحدود المعترف بها دوليًّا أو منطقة مرتبطة بالعروبة من خلال سوريا الكبرى؛ أرض نزاع وهيمنة أو أرض الميعاد التي تفيض لبنًا وعسلًا؛ حصن طبيعي، تحميه سلسلتا جبال ومنفتح على العالم من خلال بوابة البحر المتوسط، يتمتّع لبنان بهويّة واحدة متعدّدة عالميّة لأنها تعكس شخصيّة طبيعيّىة وتعبّر عن الكرامة والحريّة الإنسانيّتين، لأنّ لا شيء سوى الحريّة يعطي هذا القدر من الكرامة والاستقلال، وذلك لنكون أحرارًا بكرامة، أحرارًا في ما نريد وفي ما نرغب، في أن نكون أو أن نصير: كلمة كان أم عقلًا، إرادة أم صورة، باختصار حرف أبجديّة يقول كلّ شيء ويدلّ على كلّ شيء. وأن تكون لبنانيًا هذا يعني أن تكون شخصًا حرًّا، وأن تكون حرًّا في الشرق الأوسط يعني أن تكون مختلفًا، من جهة، وعلائقيًّا ومنفتحًا وملتزمًا ثقافيًّا وإنسانيًّا ودينيًّا، من جهة أخرى…”
وتابع الأب عقيقي قائلاً: “لم يعد يعكس هذا التوصيف مشروعَ الخصوصيّة اللبنانيّة، المارونيّة، فحسب، فمنذ العام 2005، سادت ذهنيّة جديدة في لبنان هي ذهنيّة الرأي العام الذي يخصّ جميع اللبنانيّين واللبنانيّات، وجميع الطوائف المتمازجة. لأنّه، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وثورة الأرز، حمل الجميعُ العلم اللبناني الموقّع من أبطال الاستقلال وباتوا يهتفون بصوت واحد “لبنان أوّلاً”، لبنان المستقل والسيّد والحرّ. ولطالما كانت كلُّ طائفة تحافظ على روابط وثيقة مع حلفائها الإقليميّين. إلاّ أنّ حبّ الوطن أصبح أكثر قوةً بعدما اشتعلت المنطقة، من أوّلها إلى آخرها، وأدّى التطرّف الدينيّ إلى تآكل العروبة وإعاقة امتدادها الثقافيّ والسياسيّ. وفي هذا الإطار، وبالرّغم من عشرات المؤتمرات التي عُقدت مؤخرًّا حول المواطنة المرتبطة عضويًّا ومفهوميًّا بالديمقراطيةّ والعلمانيّة، يبقى أمامنا الكثير لنقوم به كي نُسكِنَ المفهومَ في صلب إدراكنا الواعي للانتماء الذي يواجه مشكلة في الوضوح والدقّة والتوحيد والحصريّة، وحتى التنقية”.
ثم أردف: “إنّ الأزمات الهويّاتيّة التي عانى منها لبنان خلال أوائل القرن الحالي، هي أزمات مزيّفة لأنهّا نابعة من جهل شبه تام للرسالة اللبنانيّة ولخصوصيّة الموقع الجغرافيّ للبنان على الخريطة العالميّة. وفي الواقع، قد تمّ حصر المشكلة الرئيسيّة في طابعها الطائفي، أوّلًا، وليس في طابعها الإنسانيّ أو الوطنيّ أو الثقافيّ … هذا وتجبرنا فرصة العيش في لبنان على التكيّف مع خصائصه الكثيرة والسماح لأنفسنا بأن يجتاحَنا غناهُ المناخيّ والجغرافيّ والثقافيّ والإنسانيّ. ويبقى الاعتراف بهذا التنوّع والاعتقاد الراسخ بالالتزام به قيمة مضافة على هويّتنا الدينيّة، وليس العكس. هوية واحدة ومتعدّدة، نعم، إنّه مصير كلّ من يتحلّى بالفخر والشجاعة والفرح ليقول: أنا لبنانيّ، لبنانيّ سنّي، لبنانيّ شيعيّ، لبنانيّ درزيّ ولبناني مسيحيّ أو لبنانيّ لا أدريّ”.
وختامًا، تساءل الأب عقيقي “بعد مئة عام على العيش معًا كمجموعات لبنانيّة، هل نجحنا، بالحدّ الأدنى، في تعزيز انتمائنا الوطنيّ كي نضمن لأولادنا حياة مزدهرة لمئويّة ثانيّة؟ وهل ستقودنا المئة عام من الوجود المشترك، في إطار الجدليّة العرضيّة، إلى التساميّ المشترك كي تتمّ تنقية الهويّة اللبنانيّة في ارتقائها إلى حالة المواطن الحرّ والسيّد؟ وما هي نقاط الضعف التي يجب تخطّيها وما هي نقاط القوّة التي يجب مشاركتها مع الآخرين؟ … ولابدّ من الإشارة إلى أنّ مؤتمرنا قد نال تقدير غبطة أبينا الكاردينال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي أدرج أعماله البحثيّة على جدول البرنامج التحضيريّ لمئويّة لبنان الكبير الذي تبدأ أعماله وأنشطته في 19 أيلول 2019 وتستمرّ حتى 19 أيلول 2020”.
سابورين
ثم تحدّث المدير الإقليميّ للوكالة الجامعيّة الفرنكوفونية في الشرق الأوسط إيرڤيه سابورين مؤكدًا ً”وجود رؤية مشتركة بين الوكالة ولبنان، كما ومختلف البلدان الفرنكوفونيّة، لضمان خير الشعوب والمساهمة في تهذيب المجتمعات المنفتحة والشاملة والديناميكيّة والمتنوّعة والضامنة للقيم العالميّة المتعلّقة بإنسانيّة تنمو من خلال أوجه التنوّع التي تؤلفها، أكانت ثقافيّة أم لغويّة. وتكمن أهميّة هذا المؤتمر في معالجته للمواضيع الأساسيّة في المجتمع اللبنانيّ، مثل الحوار بين الأديان والوحدة الوطنيّة في ظلّ التنوّع وفن العيش معًا. من هنا، كان دعمنا الكامل لهذا النشاط، لاسيّما وأنّ الوكالة قد التزمت باستراتيجيّة طموحة لمواكبة هذا النوع من الأنشطة الآيلة إلى معالجة التحديّات المستجدّة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا المؤتمر يناقش دور الجامعة كمشغّل أساسي لتطوّر المجتمعات، وتحديدًا إلى تطوّرها الثقافيّ، وكعامل جوهريّ لإحلال السلام عبر تعليم الوساطة لحلّ الأزمات والنزاعات”.
يحشوشي
بعد ذلك، ألقى نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديميّة البروفسّور جورج يحشوشيّ كلمة، ممثلاً رئيس الجامعة الأب البروفسور جورج حبيقة، نوّه فيها “بهذا المؤتمر، لاسيّما وأنّ الموضوع المطروح يعكس تجربة الدولة اللبنانيّة، على مدى مئة عام، في تنوّعها المجتمعيّ والدينيّ من خلال إعادة صياغة رؤيتها الخاصة بالحوار بين الثقافات، والسلام والعيش المشترك. ويملك لبنان قيمة فريدة آتية من ديمقراطيته التوافقيّة التي تقوم على التعدّدية واحترام الآخر. فكما قال البابا يوحنا بولس الثاني عام 1999، “لبنان هو رسالة حريّة ومثال للتعدديّة بالنسبة الى الشرق كما إلى الغرب”. نعم، هو مثال يزعج، أحيانًا، الدول القائمة على أحاديّة سياسيّة واجتماعيّة”. ثم تطرّق يحشوشي إلى “بدايات لبنان الكبير الذي شكّل جوهر الميثاق الوطني. وبفضل هذا الميثاق، ينجح لبنان، بعد كلّ أزمة، في أن يحافظ على تركيبته الاجتماعيّة- السياسيّة. وبعد اتفاق الطائف، تكرّست التعدديّة كقيمة لبنانيّة أساسيّة. ويشكّل لبنان ديمقراطيّةً متمايزةً حيث إنّ التعدديّة اللبنانيّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بسياسة متمايزة. كما أنّ لبنان هو عبارة عن هويّة متجذّرة فريدة حافظ عليها في كلّ مراحل تاريخه. وإنّ هذه الهويّة هي ثمرة تاريخ مشترك متبادل نشأ من خلال ذاكرة حرب تحوّلت إلى ذاكرة سلام وعيش مشترك”.
المحاضرة الافتتاحية العامة
لامورو
وتلت جلسة الافتتاح المحاضرة الافتتاحيّة العامّة، تحدّثت فيها سفيرة كندا في لبنان السيّدة إمّانويل لامورو، التي تناولت مقدّمة عن الموضوع. وأثنت على هذا المؤتمر معتبرةً إيّاه “مساحة لتبادل رسالة تنوّع ومسامحة وانفتاح في ظلّ انتشار ميول عالميّة تُنبئ بتضاؤل احترام الاختلاف والنتائج الإيجابيّة للتنوّع. وفي عالم كثرت فيه التيارات السكانيّة وتفاقمت فيه مواجهة الآخر، برزت كندا في وضع فريد بفضل وضعها الجغرافيّ والاقتصاديّ والديمغرافيّ حيث بتنا بحاجة إلى الهجرة، أي بحاجة إلى الآخر… وإنّ الأحداث الأليمة الأخيرة قد خلقت جدلاً عامًا كرّس، أكثر فأكثر، الخوف من الآخر في المجتمع. وفي هذا الإطار، جهدت كندا على إدانة شتّى أنواع الانتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك الجرائم ضدّ الإنسانيّة والتنظيف الاثني ومنع حريّة الدين أو المعتقد”.
وأضافت السفيرة لامورو أنّ “التجربة الكنديّة أظهرت أنّ حماية وتعزيز حقوق الإنسان والاحترام والتفاهم المشترك والمساواة بين أشخاص من ديانات ومعتقدات وثقافات مختلفة من شأنها أن تجعل المجتمعات أكثر مرونةً وتؤدّي إلى الاستقرار والنموّ الاقتصاديّين. وإنّ الاحتفال بالتنوّع من خلال استقبال الآخر الآتي من أماكن مختلفة يساعد على تقوية الوحدة الوطنيّة والالتزام البنّاء بين الطوائف. وتقوم المقاربة الكنديّة، لتعزيز حرية الدين أو المعتقد، على الدفاع عن الشرائح الدينيّة المضطهدة ومكافحة الكراهيّة الدينيّة والتمييز ورهاب الأجانب والعمل على نشر أكبر قدر من الاحترام وفهم أفضل يستند إلى الحوار بين الطوائف والثقافات. وأخيرًا، لا بدّ لي من التنويه بأنّ لبنان، كما كندا، له باع طويل في مسيرة العيش معًا”.
دو فارين
ثم ألقى البروفسور فيرنان دو فارين، المقرّر الخاص لدى الأمم المتحدة حول قضايا الأقليّات المحاضرة الافتتاحيّة عن “تطوّر وضع الأقلّيات ومكانتها في القانون الدولي وحقوق الأشخاص”. وعرض، في مستهلّها، لتفاصيل عمله، وقال: “لقد أنشأت الأمم المتحدة هذا المنصب لمعالجة القضايا المتعلّقة بحقوق الإنسان عند الأقليّات الدينيّة والاثنيّة واللغويّة، وذلك بعد تسجيل سلسلة من المخاوف لديها خلال التسعينيّات لجهة تفاقم النزاعات الاثنيّة في مختلف أنحاء العالم، حيث برزت الحاجة إلى تدخّل المجتمع الدوليّ لتأمين الوسائل اللازمة لتلبية متطلّبات الأقليّات بهدف ضمان السلام والاستقرار العالميّين. وكانت لي مهمّات عدة في أكثر من بلد بعضها تكلّل بالنجاح، مثلاً في نيجيريا وأوكرانيا، وبعدها الآخر فشل، وكان الهدف منها حثّ الحكومات على ضمان حقوق الأقليّات وحريّاتهم. وبعد انتخابي في العام 2017، قدّمت أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة أربع أولويّات أنوي العمل عليها، وهي: حالات انعدام الجنسيّة التي 75% منها هم من الأقليّات، التعليم ولغات الأقليّات، ودعاية الكراهيّة التي تقودها وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتجنّب النزاعات الاثنيّة”.
أمّا بالنسبة إلى تطوّر حقوق الأقليّات على المستوى الدولي، فاعتبر دو فارين أنّ “الأمم المتحدة لا تميّز بين حقوق الإنسان وحقوق الأقليّات بل هي حقوق فرديّة لكلّ إنسان. مثلاً على ذلك، حين نتحدّث عن حقوق الأقليّات الدينيّة، ندعو إلى احترام حريّة المعتقد لديهم ونبذ التمييز، وهي حقوق إنسانيّة فرديّة. هذا ويرتبط تعزيز وحماية حقوق الأقليّات ارتباطًا وثيقًا بحقوقهم الإنسانيّة المعترف بها في القانون الدوليّ”. وختامًا، شدّد على “العلاقة القويّة القائمة بين حقوق الإنسان، من جهة، والمساواة والسلام والاستقرار في العالم، من جهة أخرى. وهكذا، إذا شعرت أقلية معيّنة بأنها غير ممثّلة ولا تستفيد، بشكل متساوٍ، من الخدمات العامّة وفرص التوظيف، فإنهّا تعاني من ظلم تمييزيّ، الأمر الذي يقود إلى نزاعات واضطرابات. إذًا، يتطلّب السلام والاستقرار مساواة وإدارة حسنة للتنوّع بشكل تحظى كلّ مكوّنات المجتمع بمكان لها من دون تمييز ولا إقصاء. من هنا، تعمل الأمم المتحدة، عبر أجهزتها، على تعزيز مفهوم العيش المشترك والاحترام والاعتراف بالآخر وضمان احترام حقوق كلّ إنسان لمنع الانجرار إلى النزاع لأنّ هذه الحقوق هي بمثابة تسوية قائمة على الاحترام والتنوّع الإنسانيّ بين حاجات المجتمع بمختلف مكوّناته، الأكثريّة والأقليّة، وحاجات الأفراد”.
الجلسات
ثم انعقدت على مدى يومين 5 جلسات، بمشاركة نخبة من الباحثين والدكاترة من لبنان والخارج، وتركّزت مداخلاتهم حول عناوين الجلسات التالية: جماعات لبنان المئوي: “واجب الذاكرة الوطنيّة والدينيّة”، “تحدّيات إدارة التنوّع بين الدستور الجمهوريّ والتعدديّة المجتمعيّة”، “الجماعات اللبنانيّة في القرن الأوّل على لبنان الكبير: ثوابت ومتغيّرات”، “موضوع بحث ومقارنة بين كندا والديمقراطيّات الليبراليّة”، و”مئة سنة على التعايش معًا لأقليّات لبنان والمشرق: إخفاقات ونجاحات”. واختتم المؤتمر بإصدار التوصيات.