حينما طلب مني الشاعر الصديق والنسيب لويس الحايك ان اكون احد المتكلمين في هذه الامسية التي تدور ابحاثها حول ديوانه “هواجس العبور” تذكرت قولاً للفيلسوف الاول سقراط وهو:” لا تسأل الشاعر عن تحليل نتاجه واعماله لعلّ غيره يُجيد التحليل اكثر منه”. فأخذت على عاتقي ان أحلّل وأن أغوص في النتاج الشعري الذي ضمّته دفتا هذا الديوان.
أول ما يلفت نظرك في شعر لويس الحايك السلاسة والوضوح والرؤيا الصحيحة البعيدة عن التكلّف وعن التصنّع، فشعره ينبض حياةً صادقة ودفئًا من القلب وعفوية فيها نقاء وصفاء. شعره مرآة لما يشعرُ تعكسُ احاسيسه دون زعل. الكلمة عنده تنسلخ من قلبه عبر قلمه بعفوية وبطريقة مباشرة ودون ان تتلاعب بها اهواء شتى ونظريات معقّدة متكلفة ومتصنّعة. عندما تقرأ قصيدة “بلا سؤال بلا دليل” التي مطلعها
اتينا الى الحياة بلا سؤالٍ وآخينا الظلام بلا دليل
ونطلب رحمة الاملِ المُرجّى فيأتي الشك كالنظر الدخيل
نتذكّر كبيرين: ابو العلاء المعري في شعره التشاؤمي
حياةُ عناءٍ وموت عنا فليت بعيد حِمام دنا
يحاول من عاش شر القميصِ وملء الخميص وبرء الضنى وثانيهم ايليا ابو ماضي في قصيدة الطلاسم حيث يقول:
جئت لا أعلم من أين لكني اتيت
وسأبقى سائرًا ان شئت هذا ام أبيت
كيف جئت كيف ابصرت طريقي لست ادري
هنا نفهم الفكر الماورائي في شعر لويس مطعمًا بحلٍ للتساؤلات التي لا جواب عليها في قوله:
بكأس تأخذ العمر بعيدًا عن الاوهام والوعظ الهزيل
كأني بالشاعر يجمع النقيضين في شعره: الزهد والمجون، فيكون الثاني دواء الاول.
واذا امعنّا التحليل بقصيدةً ” تُعادينا الحياة ” وجدنا فيها نفحةً فلسفية تشاؤمية، يُردُفها بقصيدة “قضيتُ العمر” التي تذكرنا بشعر ابي نوّاس وبفكرة الافادة من الحياة قدر المستطاع وهل أصدق من ذلك قوله:
قضيت العمر لهوًا في اغترابي ولم تكشف لي الخمرُ حجابا
أمّا قوله : فلتكن اسماؤهم اسماءنا وليكن في رهبة القبرِ العزاءْ
فهو ولا شك ذروة شعر الزهد الذي برع فيه ابو العتاهية كقوله مثلاً:
كلّ عيشٍ وان تطاول يومًا منتهى امره الى ان يزولا
اجعل الموت نصب عينيك واحذر غولة الدهر إنّ للدهر غولا
وعندماأقرأ عند بولس:
والروحُ عندَكَ سرٌّ ليت ادركه في وعظِ من ملكت ايمانه الكتبُ
تظهر امامي جليّة تساؤلاته عن الحياة الثانية وعن مصير الانسان بعد الموت وربّما عن حقيقة وجود الجنة والنار. وفي قصيدة الشك التي يقول فيها:
أيأخذني الكتاب الى كتابي فاحيا في حجودٍ وارتياب
لا أدري اذا صدقت ظنوني أيرفعني اليه بلا ثوابِ
اتذكر قولاً للمتنبي:
اذا ساءَ فعلُ المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتادُه من توهّم
امّا القافية السينية الجميلة جدًا في قصيدة “كيف كانت” التي ينهيها بقوله:
ونجهلُ اننا اسرى ضياعٍ فهل هبطت لتمويهٍ ودسّى
فتذكرني برائعة البحتري التي مطلعها
صنتُ نفسي عمّا يدّنس نفسي وترفّعت عن جدا كلّ حبيسي
ستعبر كالزمان الى فراغٍ ويأخذك الفراغ الى سرابِ
فتنتهي دورة الايام قسرًا وتحملك السنون الى تراب
بيتان معبّران يختصران ربما اطروحة من الابحاث الفلسفية التي لا يدرك المرء كنهها وهما ولا شك عصارة فكر وتأمل وقراءة لواقع يعيشه كلّ منا. هذان البيتان هما بحق اغنى من قصيدة وربّما من معلقة شعرية، تفوق المئة بيت من الشعر المنظوم. في قصيدة ليت الحياة التي يقول فيها:
ليت الحياة تعود مثاما بدأت
اي جوف حواّءُ اوفى سرّة العدم
وجدت الشاعر يناقض جبران خليل جبران حين يقول:”الحياة لا ترجع الى الوراء ولا تلذّ لها في منزل الامسز
سألهو بالشراب وان تداعت عيون الليل إسرافًا وعُهرًا
فادفن كلّ ماضٍ في خباءٍ وامرح في جديد العمر جهرا
صورة معبّرة وواقعية تجد صدىً لها يتردّد في قصيدة لابن بيت شباب الشاعر يوسف غصوب في قوله:
شربتُ من الحياة بكل كأسٍ وما نفذَ الشراب ولا رويتُ
وما خمري سوى الآم نفسي توافيني ضُحىً وبها أبيتُ
ويبلغ الشاعر ذروة المجون والبحث عن لذات الحياة وعلى السعي وراءها للتمتّع بها في قوله:
تمتّعي فالزمان لنا معارٌ وما يُرجى من العمر يسير
ويلتقي مع يوسف غصوب في قوله:
اغوص في اللذات ما اسلسَت غاديةً اة اسلست رائحة
وعندما يقول: هي كأسٌ تمنحُ الاسرار حلاَّ
ينتشي فيها ضميري كي يحلَّ
كلّ لغزٍ كان بالامس ممّلا
هل تراه تماشى مع الاخطل الصغير في قوله:
ادب الشراب اذا المدامة عربدت في كأسكِ ان لا تكون الصاحي
امّا قصائد البيتين وما اكثرها في الديوان فانّها تذكرنا بقصائد توفيق عواد في ديوان “قوافل الزمان” وهي من النوع الادبي المحبب لدى القارىء والذي يترك اثرًا طيبًا عندما تقرأه ويمرّ سريعًا فتتلقفه وتشعر انّك قريب من الشاعر وانك بالتالي فهمت بسرعة ودون عناء ما قصده وما كان يريد قوله. مثل:
واسقبها على نهدٍ عصيّ على جرحٍ تشفّى يقول هاتِ
واشربها والثم كلّ كأسٍ يمرّ على شفاه العابرات
واسمع توفيق يوسف عواد يردّد:
اتراني خصرًا هصرت ونهدًا اذا الصبُّ في نواحيك جالا
ام تراني في الشوق اغمسُ كفًا واسويّك للهوى تمثالا
إن قصيدة البيتين تمثل بشكل حجر الزاوية في ديوان “هواجس العبور” وتشكل المدماك الاساس الذي ارتفع عليه البناء فجاء صلبًا متينًا وجاءت من خلاله النفحة الشعرية صادقة لا تكلّف فيها ، وتوالت الكلمات بعفوية وباحساس شاعري جعل من كل قصيدة صورة صادقة عمّا يختلج في نفس صاحبها بحيث انّه لم يبحث عن الكلمة ولم يسع وراءها بل جاءته من القلب مباشرةً فعبّر عنها خير تعبير صورةً واقعيةً لفكرة واقعية. وعندما يصل بنا الترحال الى قصائد “ملل” في الديوان نرى امامنا انسانًا عرك الدنيا وخبرها وعاشها بحلوّها ومرّها وها هو اليوم يقف في خريف العمر متسائلاً محتارًا مسترجعًا لزمان مضى يستشفُّ فيه ذكرياته والاحلام فيقول:
رحت ابكي عند مثواها الكئيب ابكي عمرًا ضاع في ومضٍ قريب
ويضيف في قصيدة ثانية:
افيق على صدى نغم كئيب يحدثني عن الماضي الرتيب
فاسالُ كيف اهرب من رقيبي وانسى موعد القدر الرهيب
اما القسم الاخير من الديوان والذي عنوانه:عبور” فانّ الابداع الشعري يتجلّى في قصيدة “انا صابر انا عابر” وتقف خاشعًا امام رهبة الانسانية بكل معانيها وابعادها حنما يقول:
انا قصةٌ جوفاءُ يحملها عقلٌ تسّمر حلمه قدرُ
انا شمعة تنقى بخالقها وتذوب لا يبقى لها أثرُ
وبعد هل استطعت ان ألبيّ رغبة سقراط بتحليلي للديوان وهل استطعت بدقائق معدودة ان أفي الشاعر حقّه وان اغوص بحيثيات شعره وبخفايا مكنوناته وان اتعمّق بكل ما جال في خاطره وبكل ما فاضت قريحته الشعرية من رؤىً وفكرًا ثاقبًا وتطلعات واضحة الابعاد والمعالم.
طبعًا لم اصل الى ما كنت اصبو اليه ولكن حسبي انني حاولت. ومهما يكن من امر فانّ لويس الحايك في هواجس العبور كان شاعرًا عن حق وحقيق وقد عبّر عن فكره النير بنقاء ووضوح وصدق، وقد سلخ الكلمة بعفويتها من قلبه ومن عاطفته ومن عقله على السواء.
وبعد عرفتك يا لويس منذ اربعين سنة صحافيًا وناقدًا ادبيًا وباحثًا. وها انا اليوم اكتشف شاعرًا موهوبًا واكاد اقول متمرسًا. اين كانت شاعريتك قبلاً؟ هل اخفيتها كل تلك السنين لتفجّرها في خريف العمر.أم انّ آل الحايك في بيت شباب العزيزة الذين اعطوا الادب كبارًا كفرج الله الحايك ويوسف شهدان الحايك وميشال الحايك وجرجي ابو داغر واسكندر وطنوس الحايك وسواهم ممّا لا يتسّع المجال لذكرهم، قد تركوا لك ان تستلهم من بيت شباب وحيًا صدق فيه قول الياس ابو شبكة:
إجرح القلب واسقِ شعرك منه فدم القلبِ خمرةُ الاقلام.