تجربتي مع شوقي عمار غنية ولذيذة وممتعة.إنها لقاء فكري وثقافي واخوي يجمع بين ابناء الجبل لما عندهم من قواسم مشتركة ليس اقلها حبّ الضيعة والتعلّق بالتراث والحنين الى الماضي والعودة الى الجذور والمحافظة قدر الامكان على المعاني الاصيلة لقرية اللبنانية ولحضارتها التي غدت في طريق الزوال.
لقاؤنا الاول كان في برنامجي التلفزيون الثقافي “التحدي الكبير” عندما ارتأت إحدى المؤسسات التربوية في الجبل ان يكون محور ابحاثها يدور حول ادب شوقي عمار من خلال كتبه “فالح لا تعالج” – “الدني وجوه وعتاب”- “وشميلة حبق” وبدأت مسيرتنا منذ خمس سنوات وما زالت في بداياتها وعسى ان تكون خواتمها غير محدودة وغير منظورة.
وعملنا على اصدار الجزء الاول من البحث الاكاديمي:” المءلف والمسولف في الثقافة الشعبية اللبنانية”. وسوف ننهي قريبًا تحضير الجزء الثاني وبعده الثالث، اضافةً الى عمل تربوي شامل عن الادب الشعبي يكون في متناول الطلاب والاجيال الجديدة ويرمي قبل كل شيء الى تقريب التراث والثقافة الشعبية من نفوس وقناعات الشباب اللبناني الذي يجد غربة قاتلة بينه وبينها.
وثمة مشاريع تلفزيونية ثقافية ودرامية في طور التجهيز والتحضير يدور محورها الاساسي على القرية اللبنانية وعلى عاداتها وتقاليدها وحضارتها وتراثها الاصيل، وعلى اعادة إحياء هذا الارث الثمين الذي ورثناه عن الاجداد ولم نحسن المحافظة عليه. تدعونا الضرورة وينادينا الواجب للقيام بعملية بعث جديد لهذه الكنوز لكي نحصّن كل جيل يأتي ليستطيع ان يتعرّف على تاريخ عظيم يجمع عناصر المجتمع ويثبّت جذوره في الارض ويقوي شعور الانتماء الى الوطن والقوم والبيئة.
وعسانا نتوفّق بان نقنع من بيدهم الامر بان تصبح مادة الادب الشعبي موضوع عناية واهتمام وبان تغدو في صلب المناهج التربوية لحثّ اجيالنا الطالعة على التعرّف والتعمّق وبالتالي محبة ما يكاد ان يطويه النسيان.
اما كتاب “بعدن بالبال” لصديقي شوقي فهو الثقافة وتحية الى كبارنا الذين رحلو تاركين وراءهم حكايات وحكم وامثال واخبار غدت جزءًا من تاريخينا وقطعة من ارضنا الطيبة.
فهؤلاء الناس على بساطتهم وطيبتهم وسجيتهم كاوا اصحاب رؤى وتطلعات وتجارب علمتهم فاستناروا بها وليتنا نستطيع ان نمشي على هديهم ونسلك دروب المحبة التي سلكوها، ونعيش براءة عيشهم البعيدة عن التكلّف والزيف. ولعل القاسم المشترك بينهم هو الصدق والامانة والاخوة كام انيس التي عاشت مع جارتها ام حسيب سبعين عامًا الباب بالباب ولم تختلفا يومًا.
امّا العونة القروية فظهرت جليًا في مقال “الناس لبعضها” والذكاء الفطري يتجلّى في شخص ابو رامز القادر على الاجابة والتحليل والاستنتاج رغم عدم قراءته لجريدة. وحتى المعلّم ابراهيم الذي تعمّق بدراسة تاريخ لبنان على طريقة “لقوطة الخبرات” و”من كل حرش هراوي” اصبح مرجعًا وطنيًا مهمًا وتستطيع الركون اليه ليأتيك بالاخبار ولو لم تزوّده على حدّ قول طرفة.
امّا العبرة فنسمعها على لسان الجدّ ابو انيس الذي لو استشهدى اللبنانيون باقواله لما وقعت بينهم حروب وويلات . وهل ابلغ من هكذا واقع: مشكلة لبنان: التاريخ، ومشكلتنا إنّو نحنا صنعنا التاريخ بالعرق والدم وتركنا غيرنا يكتبو بالحقد والمال والحبر، وصابنا متل هاك البقرة اللي حلبت سطل الحليب ولبطتو عَ الارض”.
اما مواسم “الماية بشرف” التي اطلقها الامير الدين فاين نحن اليوم منها وخاصة بعدما بارت مواسم الرجال وفُقدت المواقف الجريئة واختفى اصحابها.
وفي الكتاب مجموعة كبيرة من الامثال الشعبية التي سلط شوقي الضؤ على معانيها واصلها وعلى روايات وحكايات مستقاة منها او مطابقة لها كمثل “مسبّع الكارت” وعمل على ابرازها من خلال قصة او حدث جرى في الضيعة واستمدّ منها عبرة.
ومن الغنى في الكتاب ايضًا تسلط الضؤ على ابيات واقوال زجلية تستمدّ من التجارب ومن الواقع حكمة لتغدوقولاً مأثورًا او بيت شعريًا شائعًا يردّد على الالسنة والشفاه مثل:
“ع الناس ت تِفرض وجودك فرض وفيك كل الناس يهتمّو
بدّك اذا نصّك وقع ع الارض ما تنحني ع الارض وتلمو
وما يلفت النظر في “بعدن عالبل” الحديث عن ظرفاء الضيعة وعن نوادرهم وعن مآثرهم في تحليل الامور على سجيتها وفي استنتاج حكمة ما او ترقب حدث معيّن، إثباتًا للنظرية التي تؤكّد انّ الفطرة وسرعة البديهة لا علاقة لهما والتحصيل، بالعلم والثقافة والتحليل وانّ باستطاعة صاحبهما ان يكون خلاقًا ومبدعًا ومتوقد الذهن.
وبعد كما يقول شوقي:” ان مضمون الكتاب يعبّر عن تاريخ قرانا جميعًا. فهو الادب ليس من نسج الخيال فقط، بل انه حياتنا اللبنانية المعايشة والتي كانت معايشة” ومن هنا قد نصنّف الكتاب في خانة التأريخ القروي كما قد نضعه في خانة الادب الشعبي ولا شك انّ واحدهما يكملّ الآخر لما بينهما من ترابط، لانّ الادب مهما كان فهو ابن بيئته وعصره وهو صورة مرئية عن احداث قد يكون في تدوينها تسليط اضواء على حقبة تاريخية غابرة.
وبعد تحية إكبار وتقدير لابناء بلدة الهبارية العريقة في قدمها والغنية في اصالتها والرائعة في صمودها خلال سنين الاحتلال والقدوة في محبتها للفكر والثقافة. وهنيئًا لكم بتحريركم الغالي وهنيئًا لكم بتاريخكم العظيم ويشهد على ذلك البرج الروماني الاثري. وهنيئًا لنا نحن ابناء جبل لبنان بلقاءنا معكم في هذه الامسية التي تجسّد عن حق وحدة بلدنا ومحبة ابنائه لبعضهم البعض وتجعلنا على يقين يومًا بعد يوم انّ لبنان باقٍ وخالد بطيبة ابنائه وفكرهم النيّر وانفتاحهم الثقافي الذي لا يعرف حدودًا.
والى الصديق الاخ شوقي عمار اقول:” سلمت يداك يا حافظ التراث ويدنا بيدك لبناء لبنان الجديد دون التنكر للجذور والاصالة لننهل دائمًا وينهل الابناء من بعدنا من ماء التراث زلال حضارة عظيمة نريد ان لا تضيع اصولها كي لا يضيع التاريخ”.