لم أكن أتصور في يوم من الأيام انني سألتقي الفنان العظيم محمد عبد الوهاب. ولم أكن اتخيّل أبداً أنني سأجلس معه في ذلك الستوديو الصغير لنسجّل مقابلة إذاعية دامت أكثر من ساعتين، قال لي يومها إنها أطول مقابلة وافق عليها لصحفي.
في أول حزيران عام 1984 انطلقت إذاعة الشرق في باريس التي اسّستها مع أحد الزملاء السابقين بعد حوالي ثلاث سنوات من البث والتوقف لأسباب مختلفة. لقيت الإذاعة استقبالا هائلا من الجاليات العربية والإسلامية في باريس وضواحيها، وانتشرت انتشارا واسعا جدا مع أننا كنا في البداية سبعة أشخاص لا غير. كنت يومها أعمل في الوقت نفسه في مجلة المستقبل السياسية العتيدة ورئيساً لتحرير مجلة ياسمين النسائية الراقية، وأذهب في المساء للقيام ببرامجي اليومية المختلفة، وتدبير بعض الأمور الادارية وحل بعض المشاكل…
في أحد الأيام، رن جرس الهاتف، فردّت إحدى الزميلات المذيعات ثم مدت لي الهاتف قائلة: هناك شخص اسمه محمد يقول إنه يريد التحدث مع المدير. أخذت الهاتف فإذا به الاستاذ الكبير والفنان العظيم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.
لم أكن أعرف ان عبد الوهاب كان يأتي كل عام ليقيم في باريس في فندق الأنتركونتيننتال عند بداية الصيف والحر في القاهرة، قبل أن يعود اليها مع بدء الشتاء والبرد في العاصمة الفرنسية. وكان يقال إن إقامته وجميع مصاريفه يدفعها أمير سعودي لا داعي هنا لذكر اسمه.
بعد السلام والكلام والسؤال عن الإذاعة وظروف نشأتها وإبداء إعجابه وتشجيعه لنا، قال لي إنه يستمع اليها طوال اليوم، لكنه يلاحظ اننا لا نذيع الكثير من أغانيه. فوعدته بالاهتمام بالأمر مع اننا كنا نذيع له عدة أغان يومياً، فهل يمكن ان لا تعتمد إذاعة ما على أغاني عبد الوهاب؟ لكن فناننا العظيم بقي فيما بعد يتصل باستمرار ليقول ان العدد غير كاف. فكنت عندما أصل الى الإذاعة يواجهني الزملاء بأن عبد الوهاب اتصل من جديد. وكنت أنظر الى السجل وأرى ان اغنيتين له قد أذيعتا قبل الظهر وأغنيتين بعده، وأتصل به لأخبره بذلك لعله لم يستمع اليها،ا فكان جوابه دائماً: أيوه، ولكن هناك أغنية كذا وأغنية كذا… فكنت اقول له إننا لا نستطيع إذاعة كل أغانية التي تعد بالآلاف في يوم واحد! وكانت المكالمة تنتهي دائما بابتسامة وقفشة لطيفة منه. لعل فناننا، وهو المشهور بأنه “مقتصد”، كان يعتقد انه كلما زاد عدد الاغاني المذاعة زادت حصيلة حقوق الملحن والمغني المالية. لم يكن يعرف حتما أن الاذاعة في بداياتها لم تكن تدفع، كغيرها كثيرات، أي مقابل مالي لأنها لم تكن قد نالت الرخصة بعد.
بعد فترة من التواصل، اتفقنا على ان يجري معي مقابلة مطوّلة في برنامجي الشهير “نجم على الهواء” الذي كان يذاع بعد ظهر كل أحد، لكنه لم يوافق على إجرائها مباشرة على الهواء، فسجلناها في الاستوديو الوحيد الصغير الذي عندما رأته فيما بعد مها صبري كادت تموت من الضحك. فهو في الأصل غرفة طالب صغيرة لا تزيد مساحتها على 12 مترا مربعا احتلّت جزءا كبيرا منها طاولة التسجيل وأجهزة المونتاج….ولم يبق مكان سوى لطاولة صغيرة وكرسيين. وبالفعل، بالكاد استطاعت مها صبري التحرك داخله عندما جاءت لتسجل معي مقابلة فنية، لأنها كانت قد اكتسبت كميات وفيرة من السمنة.
جاء يوم التسجيل مع موسيقار الأجيال، وسجلنا المقابلة، ولم يعلّق عل صغر المكان، بل جلس بتواضع يستمع الى اسئلتي ويجيب عليها برحابة صدر حتى تلك التي كان بعض زملائي قد نصحوني بألا أطرحها. لكنهم لا يعرفون عنادي ولا جرأتي التي جعلتني يوماً أنهي مقابلتي مع وردة الجزائرية وهي في عزها بعد أقل من 20 دقيقة على بدئها لأنها رفضت الإجابة على أحد أسئلتي. ولهذه الحكاية مقال آخر.
كان عبد الوهاب قد بلغ على ما أذكر الثانية والثمانين من العمر. وكان قد نبهني الى أننا لا بد ان نتوقف عن التسجيل كل نصف ساعة على الأكثر كي يمشي ويحرّك عضلاته لمدة دقيقتين أو ثلاث. وبما أن المكان كان ضيقا كما ذكرت، فقد كان هذا الفنان العظيم يتمشّى ذهابًا وإياباً في مسافة لا تتعدّى الثلاثة أمتار، وقد بدا لي ذلك المشهد كمشهد كالمساجين في الزنزانات الإفرادية الضيقة.
سارت الامور على مل يرام ولم أوفّر أي سؤال فني أو غير فني لم أسأله، حتى تلك التي لا يفضّل الكلام فيها مثل سبب غسل يديه بالسبيرتو كلما صافح مجموعة من الناس، أو “النحنحة” التي كان يمارسها أثناء وقبل الغناء وهي واضحة تماما في أغنية “كل ده كان ليه” مثلاً. وهي مقابلة حرصت على الاحتفاظ بها لأنها تؤرخ لفترات مهمة من حياة هذا الفنان العظيم، على عكس كثير من المقابلات التي لم أهتم بالاحتفاظ بنسخة منها. ولا أدري إن كان بالإمكان تحويلها من الكاسيت الى قرص مدمج رقمي يسمح بنشرها على فايس بوك؟!
من حين لآخر كان عبد الوهاب يسعل، وأقسم انني لم أشهد سعلة أقوى وابشع وأقرف من سعلة هذا الفنان الكبير. صوت رائع وسعلة شنيعة، سبحان مدبّر الأحوال.
لقيت المقابلة نجاحاً كبيراً جداً، وسُرّ عبد الوهاب لأن اتصالات كثيرة جاءته للتهنئة بها على ما أخبرني. وتوطدت العلاقة بيننا وأصبحت أزوره من حين لآخر.
كنت أذهب اليه بعد انتهاء برامجي أي حوالي التاسعة والنصف مساء. كان عبد الوهاب يتناول طعام العشاء في جناحه الخاص الساعة التاسعة تماماً. وقد فاجأني في أحد الأيام بأنه تكلم الفرنسية بيسر مع الخادم الذي جاء يلملم مائدة العشاء.
علم عبد الوهاب أن صاحب المجلتين اللتين أعمل فيهما هو المرحوم نبيل خوري مدير البرامج في الاذاعة اللبنانية سابقا، وأحد ألمع نجوم المجتمع في بيروت أيام عزّها في الستينات، وبدا لي أن عبد الوهاب يعرفه جيدا ويحبه، وطلب مني أن أبلغه السلام، فأبلغت. وفي مرة ثانية سألني أيضاً عن أحوال نبيل خوري وطلب أن أسلّم عليه. فأبلغت السلام مرة ثانية وسألت المرحوم نبيل إن كان قد اتصل به فقال لا، ” لأنني لو اتصلت فلا بد أن أدعوه واقيم له حفلا كبيرا ادعو اليه 500 شخص، ولا مزاج عندي الآن لذلك”.
نبيل خوري كان رجلا كريماً ومضيافاً، وأعتقد ان مجلة المستقبل كانت قد بدأت في ذلك الوقت تعاني من بعض المشاكل المالية.